كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

للبحث في أسرر البعث والنشور، إذ برجة عنيفة من خلفي كادت تقضي بحتفي، فالتفت التفاتة الخائف المذعور، فرأيت قبرًا قد انشق من تلك القبور، وقد خرج منه رجل طويل القامة، عظيم الهامة، عليه بهاء المهابة والجلالة، ورداء الشرف والنبالة، فصعقت من هول الوهل "الفزع" صعقة موسى يوم دك الجبل، ولما أفقت من غشيتي، وانتبهت من دهشتي أخذت أسرع في مشيتي، فسمعته يناديني، وأبصرته يدانيني، فوقفت امتثالًا لأمره، واتقاء لشره، ثم دار الحديث بيننا وجرى على نحو ما تسمع وترى بالتركية تارة والعربية أخرى.
الدفين: ما اسمك أيها الرجل، وما عملك، وما الذي جاء بك؟
فقلت لنفسي: حقًا إن الرجل لقريب العهد بسؤال الملكين، فهو يسأل على أسلوبهما، فاللهم أنقذني من الضيق، وأوسع لي في الطريق لأخلص من مناقشة الحسابه، وأكتفي شر العذاب، ثم التفت إليه وأجبته.
عيسى بن هيشام: اسمي عيسى بن هشام، وعملي صناعة الأقلام، وجئت هنا لأعتبر بزيارة المقابر، فهي عندي أوعظ من خطب المنابر.
الدفين -وأين دواتك يا معلم عيسى ودفترك.
عيسى بن هشام: أنا لست من كتاب الحساب والديوان، ولكني من كتاب الإنشاء والبيان.
الدفين: لا بأس بك، فاذهب أيها الكاتب المنشئ، فاطلب لي ثيابي وليأتوني بفرسي "دحمان".
عيسى بن هشام: وأين يا سيدي بيتكم فإني لا أعرفه؟
الدفين مشمئزًا: قل لي بالله من أي الأقطار أنت؟ فإنه يظهر لي أنك لست من أهل مصر، إذ ليس في القطر كله من أحد يجهل بيت أحمد باشا المنيكلي ناظر الجهادية المصرية.
عيسى بن هشام: أعلم أيها الباشا أنني رجل من صميم أهل مصر، ولم أجهل بيتك، إلا؛ لأن البيوت في مصر أصبحت لا تعرف بأسماء أصحابها بل بأسماء شوارعها وأزقتها، وأرقامها، فإذا تفضلت وأوضحت لي شارع بيتكم، وزقاقه
ورقمه انطلقت إليه وأتيتك بما تطلبه.

الصفحة 134