كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

كتب هذه الأبحاث في "المرشد الأمين"، ولما جاء جمال الدين أخذ يلح على هذه الكلمات، وصارت تدوي في آذان المصريين، فلا نعجب إذا حين نرى الحركة العرابية تنقلب إلى ثورة شعبية ترمي إلى الإصلاح الشامل، والتمرد على الظلم والطغيان، وهنا يجد لون جديد من النثر طال احتجابه منذ قرون عديدة، ألا وهو الخطابة التي تضاءل أمرها منذ العصر العباسي، وانحصرت في خطب الجمعة، وصارت تقليدا لخطب ابن نباتة الذي كان معاصرًا لسيف الدولة، ثم صارت ألفاظًا محفوظة لا روح فيها ولا حياة، فلما قامت الثورة العرابية اعتمدت في بث مبادئها، والدفاع عن قضيتها على الخطابة، وكان عرابي نفسه خطيبًا مفوها ذا تاثير قوي على الشعب حين يتكلم، كما كان عبد الله نديم خطيب الثورة المفوه الذي كان ينتقل من مكان إلى آخر مع زعماء الثورة، ويخطب بتدفق وغزارة، وحماسة أينما حلوا، يروج لهم ويشرح للشعب قضيته العادلة، وبذلك فتح الطريق أمام عهد خطابي زاهر بلغ أشده على يد مصطفى كامل في أخريات القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، وشاركه في هذه النهضة كثير من رجال الحزب الوطني، وحزب الأمة وحزب الإصلاح الذي أسسه الشيخ علي يوسف، وشاهدت الجمعية العمومية خطباء مصاقع من أمثال سعد زغلول، وإسماعيل أباظة وعلي يوسف ومن على شاكلتهم.
انتهت الثورة العرابية بالاحتلال البريطاني، وكان كارثة عوقت ركب النهضة في شتى مناحي الحياة، وفرض الإنجليز في سنة 1889 لغتهم على المدارس المصرية تلقى بها كل الدروس ما عدا اللغة العربية، وقابل المصريون الاحتلال بوجوم شديد، ولكنهم ما لبثوا حتى أفاقوا من هول الصدمة، وعاد بعض المنفيين من زعماء الأمة، فيرجع محمد عبده وعبد الله نديم الذي يستأنف جهاده بإصدار صحيفة "الأستاذ" يندد فيها بالاحتلال البريطاني، ويستثير حمية المصريين للتخلص من وطأة الأجنبي، ويمهد الطريق لمصطفى كامل الذي يصدر صحيفة "اللواء"، ويوقدها نارًا مشهوبة الضرام في الداخل، والخارج على هذا الاحتلال البغيض، ومن قبله يصدر الشيخ علي يوسف "المؤيد" وتساندها الأقلام القوية، وينتشر

الصفحة 14