كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

وينظر حافظ نظرة سريعة إلى تقاعس المصريين عن بناء جامعة لهم، وعدتهم عشرة ملايين، يكتفون بإرسال أبنائهم إلى جامعة بيروت الأمريكية فيقول على لسان سطيح: "أليس من العار أن تكونوا أكثر مالًا وأعز نفرًا، ولا تجدوا في مصر لتعليم أولادكم مستقرًّا، وليست بيروت بأخصب من عروس النيل أرضًا، ولا بأوسع من ملك مصر طولًا وعرضًا".
ثم يتكلم عن الامتيازات الأجنبية في سرعة شديدة، وكأنه خشي أن يخوض فيها فتعد عليه كلماته وتحصى إشاراته، ويعلل لبقائها بأن الإنجليز لو أرادوا لأزالوها، ولكنهم يريدون أن يسأم المصريون حياة الذلة في ظلها فيركنون إلى رجال الاحتلال يطلبون منهم الحماية، ويصف سياسة الإنجليز بأنها كالكهرباء تدرك العين فعلها، ولا يدرك العقل كنهها، وهم إذا دخلوا قرية جعلوا أعزة اهلها أذلة، وكان لهم في اجتذاب ثروتها كياسة الأسفنج في اجتذاب الماء مع ذلك الرفق والسهولة، ثم ينتقل إلى بعض أدواء المجتمع، فيصف "مشيخة السجادة الصوفية والوصاية على اليتيم والزار" في كلمات خاطفة كأنه يحصيها إحصاء دون ترتيب، فيقول على لسان عابر طريق يقول لزميل له وهو ينصت إليهما: "لقد أفاض الفلاسفة في تعريف السعادة، وتفننوا في تصوير
اللذة، ولكني لم أجد فيهم من نفذ فهمه إلى حقيقة ذلك التعريف جهلوا أن السعادة كل السعادة في مشيخة السجادة، وأن أسعد الناس حالًا وأرخاهم بالًا جالس فوقها، يجري رزقه من تحتها، فهي الجنة التي تجري من تحتها أنهار النذور، والكنز الذي لا تفنى ذخائره أمد الدهور".
وأسعد من هذا الحي ميت يسخر له الله من بيني على قبره قبة عالية، ثم يدعو الناس إلى التبرك بتلك العظام البالية، فتجيء سعادته في مماته على قدر شقائه في حياته، وتطير بذكر كراماته الأنباء، وتحمده على تلك النعمة الأحياء، وفي ذلك يقول قائلهم:
أحياؤنا لا يرزقون بدرهم ... وبألف ألف ترزق الأموات
من لي بحظ النائمين بحفرة ... قامت على أحجارها الصلوات

الصفحة 148