كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

"وحتى إذا أخضل الليل، وأرخى الذيل، بدا الهلال كأنه خنجر من ضياء يشق الظلماء، أو قلادة، أو سوار غادة، أو سنان لواه الضراب، أو الليل فيل وهو ناب، أو عرجون قديم أو نون من خط ابن العديم، أو برثن ضيعم، أو مخلب قشعم، أو ما خرج من أنبوب في روض، أو ثمد في أسفل حوض، أو وشي مرقوم، أو دملج من فضة مفصوم، أو قلامة ظفر، أو صنار في شبك في بحر.
أيا ضوء الهلال لطفت جدًا ... كأنك في فم الدنيا ابتسام
يحبب لي سناك العشق حتى ... يصاحبني وأصحبه الغرام
ثم إذا غاب الهلال، وتوارى في الحجال، ألفيت الكون من السواد في لبوس حديد أو لباس حداد، وكأن الماء سماء، وكأن السماء ماء، وكأن النجوم در يموج في بحر، أو ثقوب في قبة الديجور يلوح منها النور أو سكاك دلاص، أو فلق رصاص، أو عيون جراد، أو جمر من رماد، أو الماء صفائح فضة بيضاء سمرت بمسامير صغار من نضار، فلا تفتأ السفينة تكابد الويل من البحر والليل، حتى يلوح من الأفق الضياء".
وهنا نحن نرى أنه شبه الهلال بكل ما يخطر على البال، وما لا يخطر على البال من التشابيه، وأنه تكلف في ذلك تكلف شديدًا ومع كثرة هذه التشابيه، فهو لم يتعد شكل الهلال، ولا نحس بعاطفة ولا روح في تشابيهه، ولم ينظر إلى الهلال، وهو يطل على الدنيا الغافية من عليائه ويطلع على ما فيها من متناقضات، أي أنه لم يندمج في الطبيعة، ويشخصها ويغوص إلى الأعماق ويستكنه سرها، وإنما وقف عند حد الشكل فلم نفد من تشبيه على تعدده جديدًا، وكذلك الأمر في وصف النجوم الحالية الساطعة في دجنة الليل، ربما كان في هذه التشابيه طرافة، ولكنها بعيدة كل البعد عن وظيفة التشبيه كما يجب أن يكون.

الصفحة 159