كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

يفيدوا من حالهم، يجتمعون للفساد، ويفترقون على ميعاد، لا تعرف أيهم أسوأ نفسًا، وأبلد حسنًا، حياتهم فراؤغ يقتلونها في الميسر، وفي سلب أموال الفلاحين الكادحين، وقد ظلوا كذلك إلى أن قضت الثورة على تعطلهم وأعادتهم إلى حظيرة مكانهم الطبيعي في المجتمع يكدحون مع الكادحين، ويكسبون العيش بعرق الجبين.
ولقد أدرك البكري بحق وظيفة المال وأنه وسيلة لا غاية، فإذا نال المرء منه الكفاية فذلك حسبه، أما هؤلاء الذين يدخل لهم في اليوم الواحد الآلاف، فيزيدهم المال طغيانًا، ويستعبدون بها لشعب، ويسخرونه للسيطرة والفساد.
ولهذا سنت الثورة الضرائب التصاعدية، وحدث من طغيان الدخول، ولست أدري من أين أتى البكري هذه النزعة: أهي نزعته الدينية، وقد فطن إلى تعاليم الدين الصحيحة، فهو يدعو بلسان رجل الدين، أم أفادها من إطلاعه على أحوال بعض الأمم الغربية، وإن لم تكن الاشتراكية على عهده قد خطت تلك الخطوات الواسعة في الحد من تضخم الثروات؟ أم هو الإدراك السليم؟ على أية حال لقد كان البكري ثائرًا على أوضاع مصر الشاذة مع أنه من أبناء الخاصة الذين شبوا في أحضان النعيم، ولكنه كان ذا نظرة ثاقبة وفكر رشيد وقلب رحيم.
ولعل ميول الاشتراكية هذه هي التي نفرت منه عباسًا، فنظرته إلى الحكام وإلى أبناء الخاصة، وآراؤه الاشتراكية مما كرهه لعباس، وهو الذي اشتهر بحبه لجمع المال، وبعدواته للنظم الديمقراطية.
وثمة شيء آخر كان على أشده في تلك الأيام، ذلك التنافس الشديد بين أبناء الذوات من الأتراك وأبناء السادة من المصريين، ولعل البكري أراد أن يغمز الأتراك غمزة قوية ويصورهم هذه الصور الزرية لشدة تعسفهم، ومباهاتهم الجوفاء، بيد أن نزعته الاشتراكية تظهر في عطفه على العامة حين يقول:
"وأما العامة -أيدك الله- فهو عظم على وضم، وصيد في غير حرم، سيد مأمور، والإخشيد في يد كافور، ويتيم غني في يد وصي.

الصفحة 163