كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

طبقات الأمة مثل آراء توفيق البكري، وإن لم يكن لها الصدى الذي تستحقه؛ لأن الأسلوب الذي صيغت فيه يعلو على مستوى أبناء الخاصة وجمهور العامة.
ابتدأ البكري حديثه عن العامة بتقريره أنهم أصحاب السلطان الحقيقي، وأنهم أشبه بسيد مأمور والإخشيد في يد كافور، فالإخشيد هو الملك الشرعي، وكافور هو الملك الفعلي، وأنهم أشبه بيتيم غني في يد وصي يستبيح ماله وينهب حقوقه، ويصور الغيظ الذي يضطرم في نفوس العامة، ولكنه أشبه بغيظ الأسير المغلوب على أمره لا يستطيع إلا أن يغتاظ من غير قدرة على تحطيم قيده، ثم يبدى رأيًا جريئًا تنادي به الشعوب الحية اليوم، إذا كان حكام المة لا يولونها عناية، أو رعاية فعلًا يدفع الناس الجزية والضرائب؟ إنه تمرد على الظلم وحث على الإصلاح، ثم يقتبس بيت أبي العلاء الذي يقرر فيه أن الحكام هم أجراء لدى الأمة، ومع ذلك يظلمونها، وهذا أعجب العجب.
ويعقد موازنة بين هذه الفئة القليلة التي تملك كل شيء في مصر، وتبعثر على موائد الفساد ما جمع هؤلاء المساكين في حمارة القيظ وصبارة الشتاء، وبين هؤلاء الذين يبيتون على الطوى، وأبناؤهم يتضاغون من المسغبة والفاقة، ويتضورون من الجوع والعرى ويتلوون من السقام والأوصاب، وله في غير هذا الموضوع بيتان صور فيهما العلاقة بين الحاكم والمحكوم في مصر.
حمق الألى يحكمون الناس يضحكني ... وسوء فعلهم في الناس يبكيني
ما الذئب قد عاث بين الضأن أفتك من ... هذي الولاة بهاتيك المساكين
إنه صور الآفات الاجتماعية التي كانت تفتك بهذه الأمة المسكينة، وهي الفقر والجهل والمرض، وعرض في إيجاز أدبي مشكلة التشرد والبؤس، ووازن بين الطبقة الفقيرة الكادحة في سبيل العيش، والفاجرة التي تتحلى بالدر وتنتعل الذهب.
ولا يسعنا أن ندرس كل نثر البكري وبحسبنا أن نذكر الموضوعات التي طرقها، فهو بجانب وصفه لرحلته، ورسالته التي آثر فيها العزلة نجده قد تكلم

الصفحة 165