كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

عن نابليون ووقف وقفة شاعر ناثر على قبره، وتكلم عن مواقفه وفتوحاته، وغزواته وانتصاراته، ثم تكلم عنه بعد زوال ملكه واعتقاله في جزيرة سانت هيلانة، وقد وفق في هذه القطعة لولا تزمته.
وله كذلك قطعة في رثاء صديق بيد أننا لا نتعرف على صديقه هذا ونميز سماته ونعرف اسمه وصنعته، وكأني بهذه القطعة تصلح لكل صديق له، وقد بالغ مبالغات في وصفه حتى جعله واحد الدنيا علمًا وعرفانًا، وفضلًا وإحسانًا إلى غير ذلك من الأوصاف التي لا أظن أنها جمعت في شخص حي إلا أن يكون من مخيلة البكري، واستطرد في هذه القطعة إلى وصف الدنيا على طريقة الزهاد والمتصوفة متأثرًا بخطب الإمام على في ذمها والشكوى منها، ولكن وقفته على القبور وهو يودع هذا الصديق إلى جدثه يدل على إحساس شاعر، فقد ضمت بين رجامها ملوكًا كانوا وكانوا، وكم فيها من حسناء بضة كأنها سبيكة فضة "صليجة فضة" أصابها الهزال كما يصيب الهلال، وإذا بها في القبر كأنها مصباح راهب في قبة مظلمة، أو كنز راغب في مهجورة معتمة، وإذا بجسم كان يخشى عليه الهزال أصبح، وهو بال، وخذ كان يصان عن القبلة، تعيث فيه الأرضة والنملة، وتغور كأنها أقاح أو حبب في راح تنثر في البوغاء وتخلط بالحصباء ... إلخ.
ومن طرائفه وصفه لمرقص في أحد قصور فيينا كان قد دعي إليه وسمى المرقص، أو "DANCE" الفنزج، وابتدأ بوصف ليالي الشتاء في فيينا، ثم وصف دور هذا القصر وما فيه من أثاث ورياش وأوان، وتماثيل وتصاوير ووصف المرآة والأنوار والأضواء والخرد الحسان، وما عليهن من الوشي والأكسية والحلي، ووصف الموسيقى والمرقص والسماط، والشراب وقواريره، وكيف انتهى الحفل في طلعة الفجر، ووصف الفقجر وطلوع النهار وصفًا دقيقًا رائعًا، ولولا ما شاب هذه القطعة من تلك الكلمات المعجمية لكانت من أبرع ما قيل في الوصف في نثرنا الحديث، وهي إن دلت على شيء، فإنها تدل على حسن مرهف، وخيال محلق، ومعرفة بأسرار اللغة ودقائقها، مما جعله أحيانًا يأتي بأوصاف قديمة لا تتناسب مع الموصوف خذ مثلًا قوله يصف الحسان، وهن قادمات إلى هذا الحفل الراقص:
"وثم الخرد الحسان كاللؤلؤ والعقيان، من كل عطبول رفلة، أو أسحلانة ربلة، صدور كالإغريض، أو صدور البزاة البيض، وساعد كأنها شماريخ من

الصفحة 166