كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

ولما توفي الإمام محمد عبده سنة 1905 ضاقت على المنفلوطي الأرض بما رحبت، واسودت الأيام في وجهه، ورأى القاهرة كئيبة لا تسكن، فآثر أن ينزوي ببلدته منفلوط، ومكث ثمة عامين، وابتداء وهو ببلدته يراسل المؤيد، ويكتب فيه مقالات أسبوعية وكانت أولى مقالاته في أكتوبر 1907.
ولما عاد إلى القاهرة عينه سعد زغلول محررًا عربيًا بديوان المعارف، وكان من المعجبين به المقدرين لمواهبه، ولما نقل سعد وزيرًا للحقانية "العدل" انتقل المنفلوطي معه، ولما اختير سعد وكيلًا للجمعية التشريعية، صحبه محررًا بها، وظل موظفًا بالحكومة حتى سنة 1921حين فصله ثروت على إثر مقالة نشرها يدافع بها عن سعد ويهجو خصومه، ولكنه ما لبث أن دعاه القصر ليشغل وظيفة في أمانة السر بالديوان الملكي، بيد أنه أقيل منها بعد قليل لمناصرته لسعد، وكان سعد في عداء مع القصر.
ولما أسندت إلى سعد رئاسة الوزارة سنة 1924، وافتتح "البرلمان" عين المنفلوطي رئيسًا لكتاب مجلس الشيوخ، بيد أن الأجل لم يمد له في حباله فمات في الثامنة والأربعين من عمره في اليوم الذي اعتدى فيه على سعد "يولو 1924"، فضاع نعيه في زحمة الأحداث.
ينتسب المنفلوطي إلى الإمام الحسين بن علي رضي الله عنهما، وكان أبوه قاضيًا لمنفلوط، وأمة تركية، ولكنها ما لبثت أن طلقت وتزوجت برجل آخر من منفلوط، فكان لذلك -ولا ريب- تأثير كبير على نفس المنفلوطي الشديدة الحساسية.
ويظهر أن النفلوطي عانى بعض شظف العيش أيام أن كان طالبًا بالأزهر، وبعد طلاق أمه، وزواج والده مرة أخرى، بيد أن حالة الفقر هذه قد تبدلت، إذ تزوج بسيدة ثرية، ولما ماتت ورث عنها ستة عشر فدانًا عاش بسببها في رفاهة العيش حتى قال: "قد رزقني الله من المال ما لا أطلب بعده لنفسي مزيدًا"، ولكنه على الرغم مما آل إليه من بسطة في الرزق لم تنسه الأيام سني الخصاصة الأولى فيقول: "ذكرت الجلسة البسيطة التي كنت أجلسها أيام الطلب في غرفتي العادجية الصغيرة بين زملائي الفقراء البسطان فبكيتها، ولم تنسني إياها جلستي اليوم في منزلي الأنيق الجميل بين خير الناس أدبًا وفضلًا ومجدًا"1.
__________
1 نظرات ج 3 ص 208.

الصفحة 172