كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

وكان المنفلوطي شديد التدين، سليم العقيدة، غير متزمت أو متعصب، لا يبيع دينه بأي ثمن مهما غلا، وكان فيه حيائ يمنعه من الحديث في المجالس حتى ليظن مجالسه أن بلسانه حبسة وعيا، وأنه ليس ذلك الأديب الذي يسيل الكلام المنمق على شباة قلمه عذبًا جميلًا، ولكنه، إذا خلا بأحد خلصائه ممن يأنس لهم، انطلق على سجيته، ورأيت فيه المنفلوطي الكاتب الذي نعرفه، وكان ممن يؤثرون العزلة والبعد عن مزاحمة الناس، وقد آثر السلامة بأن لبس الناس على علاتهم.
هذا وقد كانت الحقبة التي تفتحت فيها مواهب المنفلوطي الأدبية -أي في مستهل القرن العشرين- قد اشتد فيها بطش الإنجليز، وبخاصة بعد الاتفاق الثنائي سنة 1904، وكان المصريون يشعرون شعورًا حادًا بوطأة الاحتلال، ويدركون أنهم من أمة عريقة لها ماضيها وحضارتها ودينها الذي يبعث فيها العزة والكرامة، وتراثها الفكري العظيم، ويحلمون بعودة هذا المجد التليد، فلا بدع إذا راق لهم من الأدب الغربي -ذلك الذي اشتدت به صلتهم على مر الأيام منذ مستهل النهضة- الأدب الروماني الذي يتغنى بأمجاد الأمم ورائع تاريخها، ويعظم القوميات، ويهيم وجدًا بطبيعة الأوطان، والذي كان طابعه العام لدى الفرنسيين بخاصة -بعد انهاير إمبراطورية نابليون، هو الطابع الحزين، إذ وجد شباب فرنسا أنفسهم في فراغ بعد تلك الغزوات الكبيرة والانتصارات المجيدة، وكان في كل بيت مأتم بعد تلك الحروب الطاحنة، والبلاد في ضيق مالي شديد الوطأة بعد أن استنفدت موارد فرنسا في حروب نابليون، فأخذ الأدباء والشعراء يعزفون على قيثارة البؤس أنغامًا حزينة، وإلى أمد غير قليل حتى سميت تلك الأنغام داء العصر.
وقد كان حال المصريين بعد إخفاق الثورة العرابية، ونكبة الاحتلال تشبه حال الفرنسيين بعد أن تقوضت إمبراطورية نابليون، فاعجبهم من الآداب الغربية والأدب الرومانسي في تلك الحقبة، وكان المنفلوطي ممن يعتلج الأسى في صدورهم لرهافة في حسه، وصدق في وطنيته وإخلاص في عزمه على الإصلاح، وهو يرى البؤس والشقاء والفقر والمرضى يحيط به أني ذهب مع شعور بموهبته، ومن هنا انطلق يبكي ويصور آلام نفسه وبؤس قومه.

الصفحة 173