كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

لم يكن المنفلوطي يعرف من اللغات غير العربية، ولكن ذلك لم يمنعه من قراءة ما ترجم من اللغات الأجنبية إليها، وأعجب بآثار الرومانسيين، وأقبل عليها بشغف ولذة، وقد شاء له طموحه أن يترجم بعض هذه الآثار القصصية، ولكن كيف السبيل إلى هذا وهو لا يجيد أي لغة غربية، ومن ثم دعا من ترجم له ترجمة حرفية بعض هذه القصص من طويلة وقصيرة، ثم صاغها بقلمه صياغة عربية مع كثير من التصرف والحرية في التعبير كما فعل في قصة "برناردين دي سان بيير" "بول وفرجيني" التي سماها الفضيلة، وكانت قد ترجمت من قبل على يد محمد عثمان جلال، وكما فعل بقصة "ألفونس كار" "ماجدولين"، وقصة "أدمون روستان" "الشاعر أوسير أنودي برجراك"، وقصة "فرانسوا كوبيه" "في سبيل التاج"، والأخيرتان تمثيليتان أحالهما المنفلوطي إلى الأسلوب القصصى السردي، وكذلك فعل ببعض القصص القصيرة التي نشرها في كتابه العبرات.
وليس من همي في هذا البحث أن أدرس قصص المنفلوطي المؤلف والمترجم، فذلك يأتي في دراسة تطور القصة المصرية، وإنما الذي يعنيني هنا هو المقال الأدبي لدى المنفلوطي، وقد رأينا آنفًا ينابيع الثقافة التي اغترف منها وأثرت في أدبه: الثقافة العربية القديمة، وآراء المصلحين الاجتماعيين في عصره، وبخاصة آراء أستاذه الإمام محمد عبده، والكتب والقصص المترجمة، ومن هنا نجد أن المنفلوطي لم يكن عميق الثقافة، واسع آماد الفكر وإنما كان قوي العاطفة، مرهف الحس والذوق، يضفي على كل ما يتناوله يراعه رونقًا وجمالًا من بارع أسلوبه وفيض عاطفته، فيحس القارئ إسحاسًا قويًا بانفعالات نفسه، والتذاذًا بحلو صياغته وجمال عرضه.
وقد استطاع المنفلوطي أن يبتدع طريقة جديدة في الكتابة الأدبية، طريقة تخالف تلك التي اشتهرت في القرن التاسع عشر لدى الكتاب الأدباء، إذ كانوا يحفلون بالسجع والزخارف البديعية، ويتكلفون ذلك تكلفًا، ويغلبهم على أساليبهم محفوظهم من الأدب القديم، فيرددون تشابيهه ومجازاته وكتاباته، وإن كانت لا تناسب الموضوع والبيئة والعصر.

الصفحة 174