كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

وإذا كان له بعض العذر في تحذيره وتهويله حتى لا يجرفنا التيار دفعة واحدة فننهار، ونفقد مقومات شخصيتنا، وننسى في غمرة التقليد كل ما لنا من حسنات، بيد أن نظرته إلى الحياة الاجتماعية في زمنه كانت نظرة متشائمة يائنة، فقد صور المجتمع تصويرًا بشعًا، وبالغ في تجسيم الآفات، ويتخذ من الحوادث الفردية ظاهرة عامة كما نراه في مقالته "الآداب العامة"، وكما في حديثه عن انتحار الطلبة في موسم الامتحانات، فلم يكن داء عضالًا منتشرًا بين جماهير الطلبة، ولا يعدو حادثة أو اثنتين، وبخاصة تلكم الأيام التي عاشها المنفلوطي في أوائل القرن العشرين قبل أن تنعقد الحياة.
ومقاله "أين الفضيلة" يوحي بأن المجتمع فاسد جملة في كل طوائفه:
"فتشت عن الفضيلة في حوانيت التجار، فرأيت التاجر لصًا في أثواب بائع وجدته يبيعني بدينارين ما ثمنه دينار واحد، فتشت عن الفضيلة في مجالس القضاء فرأيت أن أعدل القضاة من يحرص الحرص كله على ألا يهفو في تطبيق القانون الذي بين يديه هفوة يحاسبه عليها من منحه هذا الكرسي الذي يجلس عليه مخافة أن يسلبه إياه، أما إنصاف المظلوم، والضرب على يد الظالم وإراحة الحقوق على أهلها، وإنزال العقوبات منازلها من الذنوب فهي عنده ذيول وأذناب لا يأبه لها.
فتشت عن الفضيلة في تصور الأغنياء فرأيت الغنى إما شحيحًا أو متلافًا. فتشت عنها في مجالس السياسة فرأيت أن المعاهدة والإتفاق، والقاعدة والشرط ألفاظ متردفة معناها الكذب ... فتشت عنها بين رجال الدين فرأيتهم -إلا من رحمة الله- يتجرون بالعقول في أسواق الجهل.
سيقول كثير من الناس: قد غلا الكاتب في حكمه وجاوز الحد في تقديره ... ولكني أقول لهم قبل أن يقولوا كلمتهم: إني لا أنكر وجود الفضيلة، ولكني أجهل مكانها، فقد عقد رياء الناس أمام عيني سحابة سوداء أظلم لها بصري، حتى ما أجد في صفحة السماء نجمًا لامعًا ولا كوكبًا طالعًا ... كل الناس يدعي الفضيلة وينتحلها، وكلهم يلبس لباسها، فمن لي بالوصول إليها في هذا الظلام الحالك والليل الأليل؟ ".

الصفحة 178