كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

لقد كانت هناك نفوس خيرة ولا شك تجود شيء من المال، أو توقف بعض أرضها على الخيرات، ولكن ذلك لم يكن يبل غلة أو ينقع ظمأ أو يسد رمقًا أويعالج مشكلة مزمنة، بل لقد كان الإحسان فوضى يذهب إلى غير وجهته، ويناله من لا يستحقه، ولنستمع إلى المنفلوطي يصور بيانه العذب هذه الفوضى في زمنه فيقول:
"الإحسان شيء جميل، وأجمل منه أن يحل محله، ويصيب موضعه، الإحسان في مصر كثير، ووصوله إلى مستحقه وصاحب الحاجة إليه قليل فلو أضاف المحسن إلى إحسانه إصابة الموضع فيها لما سمع سامع في ظلمة الليل شكاة، وأنه محزون، ليس الإحسان هو العطاء كما يظن عامة الناس، فالعطاء قد يكون نفاقًا ورياء، وقد يكون أحبولة ينصبها المعطي لاصطياد النفوس، وامتلاك الأعناق، وقد يكون رأس مال يتجر فيه صاحبه ليبذل قليلًا ويريح كثيرًا".
ثم يقول: "مثل الإحسان في مصر كمثل السحاب الذي يقول فيه أبو العلاء.
ولو أن السحاب همى بعقل ... لما أروى مع النخل التقادا
الإحسان في مصر أن يدخل صاحب المال ضريحًا من أضرحة المقبورين فيضع في صندوق النذر قبضة من الذهب أو الفضة، ربما يتناولها من هو أرغد منه عيشًا وأنعم بالًا، أو يهدي ما يسميه نذرًا من نعم وشاء إلى دفين في قبره، قد شله عن أكل اللحم ذلك الدود الذي يأكل لحمه، والسوس الذي ينخر عظمه، وما أهدى شاته وبقرته -لو يعلم- إلا إلى وزارة الأوقاف، وكان خيرًا له أن يهديها إلى جاره الفقير الذي يبيت ليلة طاويًا يتشهى ظلفًا يمسك رمقه أو عرقوبًا يطفي لوعته.
وأعظم ما يتقرب به محسن إلى الله، ويحسب أنه بلغ من البر والمعروف غايتهما أنينفق بضعة آلاف من الدنانير في بناء مسجد للصلاة في بلد مملوء بالمساجد، حافل بالمعابد، وفي البلد كثير من البائسين وذوي الحاجات، ينشدون مواطن الصلات لا أماكن الصلوات".

الصفحة 183