كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

تلك أول مرة سمعت فيها بمثل هذه الميتة الشنعاء بمصر، وهذا أول يوم سجلت فيه يد الدهر في جريدة مصائبنا، ورزايانا هذا الشعار الجديد.
ألم يلتق بها أحد من طريقها فيرى صفرة وجهها، وترقرق مدامعها وذبول جسمها، فيعلم أنها جائعة فيرحمها؟ ألم يكن لها جار يسمع أنينها في جوف الليل، ويرى غدوها ورواحها حائرة ملتاعة في طلب القوت فيكفيها أمره؟ أأقفرت البلاد من الخبز والقوت، فلا يوجد بين أفراد الأمة جميعها من أصحاب قصورها إلى سكان أكواخها رجل واحد يملك رغيفًا واحدًا زائدًا عن حاجته فيتصدق".
ويصف بعد ذلك العلة: تلك أن الأمة التي ألفت ألا تبذل معروفها إلا في مواقف المفاخرة والمكاثرة، والتي لا تفهم من معنى الإحسان إلا أنه الغل الثقيل الذي يوضع في رقاب الفقراء لاستعبادهم واسترقاقهم، لا يمكن أن ينشأ فيهم محسن يحمل بين جنبيه قلبًا رحيمًا.
"لقد كان في استطاعة تلك المرأة المسكينة أن تسرق رغيفًا تتبلغ به، أو درهمًا تبتاع به رغيفًا فلم تفعل، وكان في استطاعتها أن تعرض عرضها في تلك السوق التي يعرض فيها الفتيات الجائعات أعراضهن فلم تفعل؛ لأنها امرأة شريفة تفضل أن تموت بحسرتها، على أن تعيش بعارها، فما أعظم جريمة الأمة التي لا يموت فيها جوعًا غير شرفائها وأعفائها!! ".
وبجانب هذه الصورة للمرأة التي ماتت جوعًا في أرض ينبت ترابها الذهب، ويفيض فيها ماء النيل بالخير العميم، يضع صورة أخرى للوجهاء وذوي الثراء بمصر، وكيف يأكلون حتى يشبعوا، وكيف لا يحسنون -إن أحسنوا- إلا طمعًا في نظرة أمير أو لفتة وزير، أو زورة مدير، ولا سيما إذا كان هذا الثرى جاهلًا لا يمكن أن يكون له مطمح في المجد الصحيح، إذ ليس يصاحب علم فيفاخر به ولا صاحب قلم يخدم به المجتمع الإنساني، ولم يبق أمامه غير هذا المجد الكاذب، وهو مجد القربى من الحكام والعمال، ولا سبيل إلى ذلك ببذل ما يستطيع من الأموال، وهو ببذله هذا المال ينشد الدنيا لا الآخرة، فإذا نفد ماله

الصفحة 186