كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

والحق أن المنفلوطي كان يمثل المسلم المستنير، والبعيد البعد كله عن التعصب الذميم، وهو حين ينفي تعصب المسلمين ضد من يخالفهم في الدين فإنما يقرر حقيقة، إذ لو كان لدى المسلمين أي تعصب للاشت الأكثرية الأقلية من زمن بعيد، في حين نرى المسلمين والمسيحيين يعيشون في كنف وطن واحد في ظل المودة، والإخاء عملًا بتعاليم الإسلام التي أوصت بأهل الذمة خيرًا.
ولا أدل على عدم تعصب المنفلوطي من ثورته العارمة عندما هاج المسلمون على المسيحيين في وية "أطنة" إحدى ولايات الدولة العثمانية، وقتلوهم ومثلوا بهم عام 1909، ويقول مخاطبًا المسلمين: "لو جاز لكل إنسان أن يقتل كل من يخالفه في رأيه ومذهبه، لأقفرت الأرض من ساكنها، وأصبح ظهر الأرض أعرى من سراة الأديم".
ويقول لهم: "وما جاء الإسلام إلا ليقضي على مثل هذه الهجمية والوحشية التي تزعمون أنها الإسلام، ما جاء الإسلام إلا ليستل من القلوب أضغانها وأحقادها، ثم يملؤها بعد ذلك حكمة ورحمة، فيعيش الناس في سعادة وهناءة".
ويشتد عليهم بقوله: "عذرتكم بعض العذر لو لم تقتلوا الأطفال الذين لا يسألهم الله عن دين ولا مذهب قبل أن يبلغوا سن الحلم، والنساء الضعيفات اللواتي لا يحسن في الحياة أخذا ولا ردًا، والشيوخ الهالكين الزاحفين وحدهم إلى القبور قبل أن تزحفوا إليهم وتتعجلوا قضاء الله فيهم، أما وقد أخذتم البريء بجريرة المذنب، فأنتم مجرمون لا مجاهدون، وسفاكون لا محاربون".
وهو بهذا يصدر عن عقيدة إسلامية صحيحة، وينادي بتطبيق الوصية التي أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة بألا يقتل المسلمون النساء والأطفال والشيوخ، وبتطبيق الوصية التي أوصى بها أبو بكر رضي الله عنه قواده، بل شملت وصية النبي الزرع والضرع والرحمة بها.
ونراه من ناحية أخرى يتحمس حماسة بالغة، ويأسى أشد الأسى عندما بدأ الطليان يغزون ليبيا، ويحالون النزول بطرابلس الغرب، ونراه يرثي لهؤلاء

الصفحة 195