كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

بحفيف الريح، وتضج بأمواج البحر، وما بكاء السماء، ولا أنين الأرض إلا رحمة بالإنسان، ونحن أبناء الطبيعة، فلنجارها في بكائها وأنينها".
ويروح المنفلوطي يعدد هؤلاء الذين يجب على الإنسان أن يرحمهم: الأرملة التي مات عنها زوجها، ولم يترك لها غير صبية صغار، ودموغ غزار، والمرأة الساقطة، لا تزين لها خلالها، ولا تشتر منها عرضها علها تعجز أن تجد مساومًا يساومها فيه، فتعود به سالمًا إلى كسر بيتها.
والزوجة، والولد، والجاهل والحيوان، والطير "لا تحبسها في أقفاصها، ودعها تهيم في فضائها حيث تشاء، وتقع حيث يطيب لها التغيير والتنقير".
لقد كان المنفلوطي في مقال "الرحمة" شاعرًا حقًا، بلا وزن ولا قافية، يفيض قلبه بالرحمة والعطف، حتى شمل عطفه ورحمته الحيوان الأعجم، والطير الأخرس العاجز.
ولكن أيهما أبلغ أثرًا في النفس: تلك الطريقة الأدبية المعتمدة على العاطفة، والخطاب المباشر، والموعظة والعبارة الأنيقة، والجمل المتساوية ذات الجرس المتزن التي يقول إنها شعر بلا وزن ولا قافية، وأن الشعر في رأيه أسرع نفاذًا إلى القلب من سواه: "إن البذور تلقي في الأرض فلا تنبت إلا إذا حرث الحارث تربتها، وجعل عاليها سافلها، كذلك القلب لا تبلغ منه العظة إلا إذا داخلته وتخللت أجزاءه، وبلغت سويداءه، ولا محراث للقلب غير الشعر.
أم المعالجة الموضوعية المعتمدة على الأدلة والبراهين، المدعومة بالحوادث المصورة تصويرًا يهيج العاطفة ويستدر الدموع، ويحض على ما فعل الخير:
أعتقد أن الطريقة الثانية تكون أبلغ أثرًا، وأجدى نفعًا، على الرغم من جمال عبارة الأولى وعذوبة ألفاظها، وغزارة عاطفتها.
ومهما يكن من أمر المنفلوطي في مقالة "الرحمة" إنسان ذو قلب رحيم يفكر في غيره قبل أن يفكر في نفسه، ويحاول جهده أن يخفف من لوعة المكروب، وحزن المنكوب، وهو في ذلك متأثر بطبيعته وجبلته وما فطر عليه وبالدين

الصفحة 206