كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

في الثواب، وأن الغاية التي يرمى إليها الدين بالترغيب والترهيب هي إيجاد المجتمع الفاضل، وأن السلطان الذي يمثل تلك القوة العليا التي تملك الثواب والعقاب، سلطان عظيم لو تغلغل في النفس وتشربت مبادئه السامية.
ويعالج المنفلوطي بعد ذلك "الخلق" بطريقة شعرية، فيقول: "الخلق هو الدمعة التي تترك فوق عين الرحيم كلما وقع نظره على منظر من مناظر البؤس، أو من مشهد من مشاهد الشقاء، هو القلق الذي يساور قلب الكريم، ويحول بين جفنيه والاغتماض كلما ذكر أنه رد سائلًا محتاجًا، أو أساء إلى ضعيف مسكين.
هو الحمرة التي تلبس وجه الحيي خجلًا من الطارق المنتاب الذي لا يستطيع مد يد المعونة إليه، هو اللجلجة التي تعتري لسان الشريف حينما تحدثه نفسه بأكذوبة، ربما دفعته إليها ضرورة من ضرورات الحياة، هو الشر الذي ينبعث من عيني الغيور حيثما تمتد يد من الأيدي إلى العبث بعرضه أو كرامته.
هو الصرخة التي يصرخها الأبي في وجه من يحاول مساومته على خيانة وطنه أو ممالأة عدوه".
ومن الموضوعات التي كنا نترقب أن يعالجها معالجة أدبية أو اجتماعية "الحرية"، ولكنه سلك فيها مسلكًا عجيبًا، وكأني به يدعو إلى الحرية المطلقة تلك التي لا يقيدها شرع أو عرف أو قانون، بل يرى أن الحيوان قد فهم الحرية أكثر من الإنسان فيقول: من أصعب المسائل التي يحار العقل البشري في حلها، أن يكون الحيوان الأعجم أوسع ميدانًا في الحرية من الحيوان الناطق، فهل كان نطقه شؤمًا علي وعلى سعادته؟ وهل يحمل به أن يتمنى الخرس والبله ليكون سعيدًا بحريته كما كان سعيدًا بها قبل أن يصبح ناطقًا مدركًا.
يحلق الطير في الجو، ويسبح السمك في البحر، ويهيم الوحش في الأودية والجبال، ويعيش الإنسان رهن المحبسين، محبس نفسه، ومحبس حكومته من المهد إلى اللحد.
صنع الإنسان القوي للإنسان الضعيف سلاسل وأغللًا وسماها تارة ناموسًا، وأخرى قانونًا ليظلمه باسم العدل، ويسلب منه جوهر حريته باسم الناموس والنظام.

الصفحة 208