كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

في مثل تلك الساعة التي مرت فيها أنه مسكن الجان، أو مأوى الغيلان فشعرت كأني أخوض بحرًا أسود، يزخر بين جبلين شامخين، وكأن أمواجه تقبل وتدبر، وترتفع وتنخفض، فما توسطت لجته حتى سمعت في منزله من تلك المنازل المهجورة أنه تتردد في جوف الليل، إلخ ولا شك أن في هذا الوصف لزقاق في القاهرة مبالغة وتهويل، فأي أمواج رآها في ذلك الزقاق تلك التي تقبل وتدبر، وترتفع وتنخفض؟ وأي لجة توسطها؟، ومهما يكن الظلام شديدًا حالكًا بالقاهرة، فلن يكون بهذه الصفة.
وأخيرًا نصل إلى المقطع الحزين الذي برع في مثله، لقد طرق باب هذا المنزل ففتحت له فتاة لا تتجاوز العاشرة من عمرها: "فتأملتها على ضوء المصباح الضئيل الذي كان في يدها، فإذا هي في ثيابها الممزقة كالبدر وراء الغيوم المتقطعة، وقلت لها: هل عندكم مريض؟ فزفرت زفرة كاد ينقطع لها نياط قلبها وقالت: أدرك أبي أيها الرجل، فهو يعالج سكرات الموت، ثم مشت أمامي، فتبعتها حتى وصلت إلى غرفة ذات باب قصير مسنم، فدخلتها، فخيل إلي أني قد انتقلت من عالم الأحياء إلى عالم الأموات، وأن الغرفة قبر، والمريض ميت، فدنوت منه حتى صرت بجانبه، فإذا قفص من العظم يتردد فيه النفس تردد الهواء في البرج الخشبي، فوضعت يدي على جبينه، ففتح عينيه"، وأطال النظر في وجهي، ثم فتح شفتيه قليلًا قليلًا، وقال بصوت خافت: "الحمد لله فقد وجدت صديقي، فشعرت كأن قلبي يتمشى في صدري جزعًا وهلعًا، وعلمت أنني قد عثرت بضالتي التي كنت أنشدها، وكنت أتمنى ألا أعثر بها وهي في طريق الفناء، وعلى باب القضاء، وألا يجدد لي مرآها حزنًا كان في قلبي كمينًا، وبين أضالعي دفينًا ... إلخ".
ثم قص الرجل قصته، وكيف وصل إلى هذا الحال من الضعف والهزال، فقد خدع فتاة ذات مال وجمال، ومناها بالزواج، ثم خاس في عهده، وتركها وهي حامل، فكتبت إليه بعد عشر سنين، وقد غادرت قصر أبيها بجنينها وأوشكت على الموت تطلب إليه أن يرعى فتاته، فجاءها وهي تلفظ أنفاسها في هذه الحجرة التي يموت فيها الآن، فأقسم ألا يبرحها حتى يقضي نحبه.

الصفحة 211