كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

أما الورطة الثانية، فهي قبوله الذهاب إلى وليمة، وقد بين المنفلوطي، كيف فرح هذا البخيل بهذه الدعوة؛ لأنه حرم على نفسه الطيبات، وكيف تحلب لها فوه، ورقصت أشداقه، وطار إليها، وكيف لنهمه وحرمانه، وقع على "خبزها وشوائها وفاكهتها وحلوائها، مثلج الصدر، ثابت القدم، ساكن القلب، طيب النفس".
ثم بين له خطأه في الذهاب إلى هذه الوليمة من وجهة نظره في البخل "كأنك لا تعلم أنها لذة الساعة، ومرارة العمر، وشبع اليوم وجوع الأبد، وأنك إنما طعمت خما في الحبالة من الحب، تأكله اليوم ليأكلك غدًا، فمن لك بالنجاة من مضيفك إن جاءك يومًا يتقاضاك دينه، وقد حفت به كوكبة من خلانه وصحبه فطار لمرآه لبك، وتمشى له قلبك في صدرك، وخيرك بين لحم شاتك ولحمك، فالفقر إن منحت، والعار إن منعت".
ئم يحثه تهكمًا وسخرية على الانزواء والانطواء كسابق عهده مكتفيًا من طعامه بالخبز والزيت، وحراسة صندوقه، لا يزور ولا يزار، حتى لا يتورط في مثل ما تورط فيه، ويحذره العودة إلى مثلها.
وقد بلغ المنفلوطي في الرسالة غايته في إظهار ضعف صاحبه، وبخله وشدة حرصه وابتعاده، وخلو قلبه من الرحمة، وأرعبه وأفزعه مما عساه يناله لتورطه في الذهاب إلى الوليمة، وزاده حسرة وندمًا للمحتال أن يخدعه في درهمه.
وله فيها تعبيرات طريفة بعضها قديم وبعضها حديث كقوله: "تحلب لها فوك، ورقصت لها أشداقك، وقوله: "وخيرك بين لحم شاتك ولحمك"، وتشبهه بالطائر الذي يلتقط الحب من الأحبولة يأكل اليوم وتأكله غدًا.
وهو يكثر فيها من السجع على غير ما عهدناه في الرسالتين السابقتين، ويستخدم ضروب الخيال التفسيري من تشبيه واستعارة، مع ما اتسمت به بقية رسائله من قصر الجمل وتساويها، واللجوء إلى الازدواج، وحسن اختيار الألفاظ.

الصفحة 217