كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

وما هذا الأمر الجلل الذي جعله يفقد الثقة بالناس جميعًا، ويفارق عشيرته وصحبه وبراعه ومحبرته، ويحاول أن يقبر الأماني في نفسه؟ لم نعرف أن المنفلوطي مرت عليه بعد أن أخذ في الكتابة مثل هذا الأمر إلا في حالتين: الأولى عندما سجن؛ لأنه هجا الخديوي عباس، ولكن سرعان ما تشفع له المتشفعون فأفرج عنه، والثانية عندما مات أستاذه محمد عبده، فآثر العزلة في بلدته منفلوط، ولكن ما لبث أن استل يراعه، وأخذ يراسل المؤيد بعد برهة من الزمن.
أتراه افتعل هذه الرسالة افتعالًا ليبين ما قد يفعله اليأس بنفوس البائسين، من فقدان الثقفة بالناس، وعدم انتظار رحمة الله التي وسعت كل شيء!!
والرسالة كما نرى معتمدة كل الاعتماد على المقابلة، وهي ضرب من ضروب البديع، كما أن فيها كثيرًا من السجع، وإن كان خفيف الوقع على السمع، ليس متكلفًا ولا باردا، وبالنظرة إلى الحياة ومن فيها تلك النظرة السوداء الكئيبة التي تحيل حياة صاحبها نارًا تتلظى.
وفيها تضمين واقتباس "على كبدي من خشية أن تصدعا"، "ما أضيق العيش لولا فسخة الأمل"، "نقص في الأموال والأنفس والثمرات، من القرآن الكريم، وفيها براعة في تصوير حال اليائس بأكثر من صورة: صورة الظبي الخائف في أرض "تعزف جناتها وتحوم عقبانها، وتزأر سباعها، وتعوي ذئابها، وتحت سماء تتهاوى نجومها، وتتوالى رجومها، وتتراكم غيومها".
وصورة المتعلق بجوف البئر، وصورة المريض المشرف على الموت لا حي فيرجى، ولا يمت فيبكى، وصور هاجر اليأس التي تتظلى نيرانها ويعتلج أوارها.
والأسلوب قد بلغ درجة عالية في السمو والسلاسة والعذوبة والتدفق، عن طريق تلك الجمل القصيرة المتساوية، وبانتفاء الألفاظ المنسجمة النغم بعضها مع بعض، وعن طريق تلك التشابيه الموحية، والصورة الزاهية.
ورسائله في مجملها تسير على نمط مدرسة ابن العميد، فلم يتطور بها كما تطورت مقالاته.

الصفحة 220