كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

فقر البيان المحض وقد ظلم العربية رجال قبحوا السجع وعدوه عيبًا فيها، وخلطوا الجمل المنفرد بالقبيح المرذول منه يوضع عنونًا لكتاب، أو دلالة على باب، أو حشوا في رسائل السياسة، أو ثرثرة في المقالات العلمية، فيا نشء العربية إن لغتكم لسرية، مثرية، ولن يضيرها عائب ينكر حلاوة الفواصل في القرآن الكريم، ولا سجع الحمام في الحديث الشريف، ولا كل مأثور خالد من كلام السلف الصالح".
وفي هذا الكلام يقرر شوقي أن هذا اللون من النثر يحل محل الشعر في موضوعه وفي موسيقاه، فيستخدم في الحكمة، والمثل والوصف والرسائل الأدبية الطويلة والقصيرة، وإذا كان قد تكلفه بعض الناس، واستخدموه في المقالة السياسية والعلمية والاجتماعية، فإنهم لم يفرقوا بين النثر الأدبي وسواه، واستشهد على ذلك بحلاوة الفواصل في القرآن الكريم، والحديث الشريف مبرهنًا على أن السجع قد يكون مصدر جمال ولا شك إذا تناولته يد صناع، وقلم بارع.
ونرى المازني يدافع عن المحسنات البديعية، ويعلل لها حيث يقول: "ربما أن العاطفة تحتاج إلى لغة حارة تعبر عنها، فقد استخدمت المحسنات ولكن هذه المحسنات صارت مرذولة بالصنعة والتكلف، أما عند شعراء الطبع فتأتي عفوًا، وتكاد لا تحس، فهي جميلة الوقع، ومعبرة تعبيرًا صادقًا عن العاطفة".
في حين نرى الزيات يدافع عن السجع والازدواج، "وهو اتحاد الفواصل في النغم دون الحروف"، ويفرق بين السجع والازدواج وبقية المحسنات، فالازدواج على إطلاقه والسجع على تقييده، يؤلفان الموسيقية في الأسلوب البليغ منذ كان للعرب ذوق أو للعربية أدب، فليست الحال فيها هي الحال في سائر الأنواع البديعية التي نشأت في الحضارة، وتمت بالترف، وسمجت بالتكلف، فالذين ينكرون على من يحسنون التأليف بين الأصوات، والمزاوجة بين الكلمات، والمجانسة بين الفواصل إنما ينكرون جمال البلاغة، وجميل البلغاء في دهر العربية كله".
وقد وضع عبد القاهر الجرجاني مقياسًا أدبيًا للحالات التي يحسن فيها السجع والتجنيس حيث يقول: "وعلى الجملة فإنك لا تجد تجنيسًا مقبولًا، ولا

الصفحة 230