كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

سجعًا حسنًا حتى يكون المعنى هو الذي طلبه واستدعاه وساقه نحوه، وحتى تجده لا يبتغي به بدلًا، ولا تجد عنه حولًا".
فالسجع في رأي الجرجاني يأتي حسنًا حين يتطلبه المعنى، ولا شك أن المعاني الشعرية، والمواقف العاطفية تتطلب لغة خاصة، ومن هنا جاء استعمال السجع لينوب عن القافية في الشعر، ونحن بهذا لا ندافع عن سجع المنفلوطي، فالسجع والازدواج بل التعبيرات المجازية على اختلاف أنواعها لا تتجاوز السدس في أدبه، كما أحصاها السيد محمد أبو الأنوار في رسالته عن المنفلوطي، والسمة العامة في أسلوبه هي الترسل الأدبي، ولكن أردنا أن نبين ما للأسلوب الأدبي من سمات يتميز بها عن سواه، وأن السجع المطبوع، والازدواج على إطلاقه مما يزيد الكلام بهاء وطلاوة، ويرتفع بالعبارة، ويجلي عاطفة الكاتب.
وكان المنفلوطي في مقالاته ذا عاطفة جياشة على تفاوت في قوة تلك العاطفة باختلاف الموضوعات.
وكان يلجأ إلى الخيال التفسيري المعتمد على المجازات من تشبيه واستعارة، ولكنه كان يخطئ أحيانًا في فهم وظيفة التشبيه إذ لا يراد لذاته كما يقول عبد الرحمن شكري، "وإنما يراد لشرح عاطفة، أو توضيح حالة، أو بيان حقيقية"، فالتشبيه وسيلة أثر المشبه في نسه أو الإيحاء بهذا الأثر، فإذا لم يقترن بالعاطفة أو لم يكن وسيلة لنقلها، فلا فائدة منه ولا جدوى فيه".
من هذه التشبيهات التي لم تؤد الغاية منها قوله: "وطار طائر الليل من مكمنه، وما نشر الظلام أجنحته السوداء في الأفق حتى وجدتنى أحير من دمعة وجد في مقلة عاشق يدفعها الحب ويضيعها الحياء"، إنه هنا يتكلم عن إنسان يعيش في هذا العالم المليء بالشرور والمتناقضات، وفجأة وجد نفسه في مدينة السعادة فأخذته الحيرة، فهل استطاع هذا التشبيه بالدمعة في مقلة العاشق أن يصور حيرته، ويكشف عن إحساسه، لا أظن، إنه يستخدم تلك الصيغ القديمة والمهارة اللغوية من غير أن يراعى المقام، ومن غير أن يحمل التشبيه عاطفة أو يبين حقيقة.

الصفحة 231