كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

بدوية معرفة في البداوة، وليست مما يراه الناس بمصر، وإنما هي مأخوذة من بطون الكتب لا من وحي الرؤية أو التجربة.
وقوله: "أحق ما تقول، وأنت الرجل السعيد بحظه المغتبط بعيشه: قصر غمدان، وخورنق النعمان وحور وولدان، وظل ظليل ونسيم عليل، وخزائن تموج بالذهب موج التنور باللهب"، فماذا يعرف قراؤه عن قصر غمدان أو الخورنق حتى يقدروا ما عليه صاحبه من النعمة؟ وهو يعيش بالقاهرة وفيها من القصور ما يزري بهذين القصرين عشرات المرات، ولكنه المحفوظ من الأدب القديم.
وكان المنفلوطي كثيرًا ما يستخدم المألوف الشائع من المجازات حتى المتداول على ألسنة العامة، وقد يصوغه صياغة جديدة، ولكنه لا يزال هناك كقوله مثلًا: "فأولى به أن يفر منها فرار السليم من الأجرب"، وقوله: "تهافت الذباب على الشراب"، وقوله: "تصارع الكلاب حول الجيف الملقاة".
وأحيانًا تأتي من محفوظه من الأدب القديم لقوله: "كفراخ القطا" وقوله: "البرد الذي كان يعبث بها عابث النكباء بالعود"، وقوله: "أدار رحى الحرب" إلى غير ذلك من التعبيرات المبثوثة في بطون الكتب القديمة، ومع ذلك فهناك صور جميلة وردت في ثنايا مقالاته، وهي ليست بالقليلة بل إنها تربى على تلك الصور المتداولة، أو التي جانبه فيها التوفيق، أو التي جاءت نتيجة الحفظ، وهي أكثر من أن تعد، ولنضرب على ذلك مثلًا أو مثلين كقوله مخاطبًا الشعرة البيضاء: "ما رأيت بياضًا أشبه بالسواد من بياضك، ولا نورًا أقرب إلى الظلمة من نورك".
وقوله مخاطبًا الشعرة البيضاء كذلك: "إن كان هذا مصيرك "أي الانتشار ونشر البياض في السواد"، فسيكون شأنك شأن ذلك السائح الأبيض الذي ينزل بأمة الزنج مستكشفًا، فيصبح مستعمرًا، ويدخل أرضها سلمًا، ويفارقها حربًا".
وقوله: "فكان يسكن إلى ذلك الوعد سكون الجرح الذرب تحت الماء البارد".
وقوله: "إن للثروة طغيانًا كطغيان الشراب".

الصفحة 234