كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

وإذا كنا قد رأينا في بعض ما كتب مسحة من القديم الذي حاول جهده ألا يطغى على أسلوبه، فقد كان ذلك على سبيل البعث والإحياء، وكم كان عصره في أشد الحاجة إلى مثل هذا البعث والإحياء، للتعابير الأنيقة، ومع أن المنفلوطي استعان بالقديم أحيانًا إلا أنه ألبسه ثوبًا جديدًا قشيبًا، وخلع عليه من روحه وعاطفته وفنه، وشخصيته، فألبسه حياة جديدة، ولقد أخذ عليه بعض النقاد هذا التمسح بالقديم -مع أنه قليل جدًا في كتاباته- وإنما يرد في عبارة هنا، وعبارة هناك ومنهم مارون عبود في كتابه "جدد وقدماء".
وأغلب الظن أن هؤلاء الذين عابوه لاستعانته بالقديم، وتسرب بعض الصيغ القديمة إلى أدبه، من أمثال مارون عبود، وسلامة موسى، لا يرضيهم الأسلوب العربي المتين، ذلك الأسلوب الذي يعتقد مارون عبود، أنه جنى على عقولنا -نحن العرب- أكثر مما فعلته الأحذية الحديدة ببنان الصبية.
هل يريدون قالبًا غير عربي أو لا يتقيد بشروط الصحة اللغوية، ومقاييس الفصاحة؟ هل يريدون أن يؤدي المعنى بأي لفظ تهيأ للكاتب، ولو كان مبتذلًا سخيفًا؟ وأي فرق إذا بين الأدب وسواه؟
ويبالغ مارون عبود حين يقول: "لقد فتشت آثار المنفلوطي كلها فما عثرت بتعبير شخص لهذا النابغة، فهل بين الناطقين بالضاد من يدلني على واحد". وهذا لعمري غاية التجني على المنفلوطي الذي صنع من تلك الألفاظ العربية الموروثة عبارات سهلة عذبة في الأناقة والطرافة، خالية من شوائب العجمة والابتذال والتكلف، غنية بموسيقاها ورخامة جرسها.
لقد فتح المنفلوطي بأسلوبه هذا فتحًا جديدًا في النثر الحديث، حيث لم يلجأ إلى أسلوب المقامات ذي السجع المتكلف المصنوع، ولم يغرق في المحسنات البديعية التي كانت تقصد لذاتها، ويتكلف الكتاب في سبيلها ما يتكلفون، وقد يجنون على المعنى في سبيل اقتناصها، ولم يلجأ غلى ذلك الأسلوب الصحفي الذي يحمل كثيرًا من التعبيرات الأعجمية المترجمة، ولا يتحرى فيه كاتبه صحة اللغة، ولا أناقة العبارة، ولم يكتب باللغة العامية التي دعا إليها كثيرون في عصره من المستعمرين وأذنابهم.

الصفحة 237