كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

وقد أخذوا عليه إسرافه في العاطفة، وبخاصة الحزينة منها إلى حد التهالك والرخاوة، فيقول المازني في الديوان: "وقد أسلفنا أن وصف أسلوبه بالنعومة أقرب إلى الصواب، ولكنه ليس كل الصواب؛ لأنه متجاوز ذلك ذاهب إلى أدنى منه وليس أدنى منه ذلك إلا الأنوثة، وهي أحط وأضر ما يصيب الأديب، ولكنها مع الأسف تجوز على فريق من الناس يلتذونها ويسيغونها، ويعجبون بها، ويبلغ من استحسانهم إياها أن يشجعوه، ويغروه بالكد في إبراز ما ليس أقتل منه للرجولة".
ثم يقول: "بأن المرء وظيفته أن يغالب قوي الطبيعة؛ لأن الأصل في الحياة الصراع.... إن هذه الحقيقة قد فطن إليها الأقدمون السذج، ولكن المنفلوطي المسكين ليس له من عمل في الدنيا إلا البكاء على الأشقياء، كأنما خلق الرجل أضعف من الدودة الجوالة في جوف الثرى".
ويقول العقاد: "وربما كان أدب المنفلوطي أصدق الأمثلة، وأقربها إلى توضيح الفرق بين ليونة الطبع، وإن شئت فقل دماثته، وبين صدق الإحساس، وسرعة العطف على الآلام والأشجان، فإن كثيرًا من الناس يخيل إليهم أن الطبع الذي يصفونه بالمدماثة والرقة، هو أصدق الطبائع حسًا، وأسرعها إلى العطف على مصائب النفوس، والإصاخة إلى شكاية البائسين والمحزونين، وليس أخطأ من هذا الخطأ في فهم حقيقة العطف الصحيح الذي إنما ينفجر من سعة الإحساس وغزارة العواطف ويقظة القلب، لا من تلك الدماثة التي لا تفتأ باكية شاكية، أو من تلك الرقة التي تشفق أن تذوب من الهباء".
ويرى العقاد كذلك "أن أبطال المنفلوطي الذين بكاهم، ورثي لحالهم بلغواالغاية من البؤس، وهم ذلك النوع الذي يبكي له الرحماء والقساة على السواء، وأن المنفلوطي ما كان يبكي لأقل من هؤلاء، بل يبكي للمصائب الجسيمة التي يبصرها الأعمى والأصم على السواء".
أما وصف أسلوب المنفلوطي بالنعومة والأنوثة فهذا تحامل بين، ومن يقرأ أدب المنفلوطي وعنده شيء من الذوق الأدبي لا يمكن أن يقر للمازني بهذا الحكم الجائر، إن طبيعة الموضوعات التي كان يعالجها كانت توحي له بهذه العاطفة،

الصفحة 238