كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

وتستثير شجونه؛ لأنه رجل رقيق الحس، مرهف المشاعر، وأعتقد أنه كان صادق العاطفة، يريد الإصلاح ويحاول أن يلين القلوب القاسية على المنكوبين والمحرومين، ومن وقعوا فريسة الانحرافات الاجتماعية والخلقية، يريد أن يؤثر في سامعه وقارئه، ويظهر مبلغ ما وصل إليه نفسه من حزن وكمد على هؤلاء المساكين، عل الناس يستجيبون لتلك العاطفية فيصلحون من شئونهم، ويتداركون أخطاءهم أو يضربون على أيدي العابثين اللاهين.
لقد نصب الرجل نفسه مصلحًا اجتماعيًا وواعظًا، وكان يريد أن يصور في بشاعة بالغة تلك المصائب التي كان يغص بها المجتمع، حتى يحس الناس بها، فليس بصحيح كما يقول العقاد أنه لم يكن يبكي إلا للمصائب الفادحة التي يبصرها الأعمى والأصم على السواء، ولكنه كان يعالج أبلغها أثرًا، وأشدها إيلامًا، وأجرأها على الدين والفضيلة، حتى يلفت أنظار مواطنيه إلى ما يغض به مجتمعهم من آفات وأوصاب، وهم راضون عنها غافلون عن آثارها.
إن الطعن في عاطفة الرجل ليس له ما يسوغه، بديل أن قراءه كانوا معجبين به، وأن كلماته نزلت من قلوبهم المنزلة التي أرادها، وأنه إنما كان ينمي فيهم الشعور النبيل، ويبعدهم عن السلبية المقيتة، ويحملهم على الاستجابة لندائه، وقد اعترف العقاد بشيء من هذا حين قال: "لكننا نقدر المنفلوطي ولا نريد أن نبخسه حقه، وننكر عليه أثره، فلا بد أن نقول: إن النفوس التي يعهدها ويعطف عليها أكثر عددًا، وأحوج إلى هذا التثقيف من النفوس التي لا عهد له بها، ولا صلة عطف بينه وبينها، وإن نظرته إلى الأخلاق والشعور أقمن أن تفيده قراءه، وتحظى لديهم من كل نظرة سواها، ولعلها -لولا ما نأخذه عليه من الليونة والرخاوة في أكثر كتاباته- أصلح زاد لهم من غذاء الفكر والعاطفة، بل كانوا في حاجة إلى منفلوطي يظهر لهم لو لم يظهر هذا المنفلوطي الذي عرفوه وأقبلوا عليه".
لم يكن الرجل سلبيًا في بكائه، ولكنه كان يتهم على كل القوى الفاسدة في عصره، تهجم على الأغنياء والأمراء الذين أرهقوا الشعب وسلبوه حريته وماله، تهجم على بعض رجال الدين الذين نافقوا في دينهم، وجعلوه سلعة يتجرون بها

الصفحة 239