كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

فيقول على الأولين: "ثم ما زال الناس يعبثون بعنوان الشرف، ويتوسعون في معناه حتى نظموا في سلكه الجبابرة الذين يسمونهم أمراء، والظلمة الذين يسمونهم ملوكًا، والسفاحين الذين يسمونهم قوادًا، واللصوص الذين يسمونهم أغنياء"، أيقال عن مثل هذا الكلام إن فيه رخاوة وتأنثًا، لقد واجه كل تلك القوى الجبارة بنعوت ترزي بها وتحط من شأنها، وتسيء إليها، وتؤلب الناس عليها، وتشككهم في منزلتهم.
وقال عن المنفاقين في الدين: "لولا خداع العناوين ما سميت صالحًا تقيًا كل من حرك سجته، وأطال لحيته، ووسع جبته وكور عمامته، ولقد تعلم أن وراء هذا العنوان كتابًا أسود الصفحات كثير السقطات".
فأي قوة وراء هذه العبارة، وأي نفس تحاول الإصلاح، ولا تبالي بمن تعادي؟!
لقد عللنا آنفًا لتلك الظاهرة في أدب المنفلوطي، ونضيف هنا أنه كان معبرًا عن شعور جمهرة الناس بالحزن والأسى، كان الاحتلال جاثمًا، والحريات مكبوتة، والبلد يستغلها نفر قليل، يمتصون دماء الشعب، ويرهقونه إرهاقًا عنيفًا، والمدنية الغربية تزحف بمفاسدها، فاصطدمت مثاليته الأخلاقية والدينية بوافعه المليء بالمآسي، وكان الناس في حاجة إلى من يعبر عن مشاعرهم هذه، ويصف لهم في مبالغة وعطف ما يعانونه من حرمان وكبت، وما يستشري في مجتمعهم من مفاسد، ولذلك أحبوا منه هذه النغمة وشجعوه عليها، واستكثروا منها.
وذكرنا كذلك تأثيره بالرومانسية الفرنسية التي غلب عليها الحزن حتى سمي بداء العصر، وليس المهم عندنا هو البكاء والاستبكاء، وإنما المهم في رأينا هو العاطفة الصادقة التي كانت تكمن وراءه.
ربما أخطأ المنفلوطي أحيانًا في علاجه لبعض المآسي التي تعرض لها، واكتفى بالبكاء على أبطاله، دون أن يصف لهم طريق العلاج الصحيح، ويحثهم على المقاومة كما فعل في مقالته "الزهرة الذابلة"، ربما كان الرجل لفرط حساسيته ولمثاليته قد فقد الثقة في كثير من الناس، ونظر إلى الدنيا بمنظار أسود، وتخيل أن وراء المظاهر الخادعة نفوسًا تغص بالشر، فكثر تشاؤمه، وزاده ألمًا على ألمه.

الصفحة 240