كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

الجهد، نذكر أن ثالث الأمور التي تعنينا في هذا الكتاب الأسلوب الذي كتبه به، وكيف حاول رفاعة في كثير من الأحيان أن يحطم قيود الماضي حتى ينهض بأداء المعاني الجديدة، ولا يقف الأسلوب عائقًا في سبيل تلك المعاني، وسنرى أن عبارته تعلو أحيانًا، وتسف أحيانًا تبعًا للموضوع الذي يتناوله، وأنه كان كمن يتحسس طريقه الشائك في ظلمة قائمة، ولقد آثر رفاعة في هذا الكتاب العناية بالمعنى على الاهتمام باللفظ، وتزويق العبارة، وكانت المعاني جديدة زودت اللغة العربية بأفكار لا عهد لها بها، وصارت اليوم من تراثنا.
ولنستمع إلى رفاعة كيف وصف المائدة الفرنسية حين نزل مرسيليا، ورأى أشياء ونظمًا لا عهد له بها، ووصف المائدة اليوم ليس مما يستعصى علينا، ولكن كل شيء كان أمام رفاعة جديدًا، وإذا رأينا في وصفه ما يثير الضحك، فلنرجع القهقري إلى تلك الحقبة لنعرف مدى ما وصلت إليه العربية من القدرة على التعبير، يقول رفاعة:
"ولم نشعر في أول يوم إلا وقد حضر لنا أمور غريبة في غالبها، وذلك أنهم أحضروا لنا عدة خدم فرنساوية، لا نعرف لغاتهم، ونحو مائة كرسي للجلوس عليها؛ لأن أهل هذه البلاد يستغربون جلوس الإنسان على نحو سجادة مفروشة على الأرض، فضلًا عن الجلوس بالأرض، ثم مدوا السفرة للفطور، ثم جاءوا بطبليات عالية، ثم رصوها من الصحون البيضاء الشبيهة بالعجمية، وجعلوا قدام كل صحن قدحًا من القزاز، وسكينًا وشوكة وملعقة، وفي كل طبلية نحو قزازتين من الماء وإناء فيه ملح، وآخر فيه فلفل، ثم رصوا حوالي الطبلية كراسي، لكل واحد كرسي، ثم جاءوا بالطبيح فوضعوا في كل طبلية صحنًا كبيرًا، أو صحنين ليغرف أحد أهل الطبلية ويقيم على الجميع، فيعطي لكل إنسان في صحنه شيئًا يقطعه بالسكين التي قدامه، ثم يوصله إلى فمه بالشوكة لا بيده، فلا يأكل إنسان بيده أصلًا، ولا بشوكة غيره أو سكينه أو يشرب من قدحه أبدًا".
ويمضي رفاعة في وصفه هذا، رأيت بعض الكلمات العامية، وتهافت الأسلوب، ومحاولته الشاقة في التعبير عن أشياء جديدة عليه كل الجدة.

الصفحة 32