كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

وهو عند وصفه لملاهي باريس يقف حائرًا، حين يرى نفسه أمام أمور لا يعرفها، فمصر والشرق العربي كله لم يكن يعرف حتى تلك الآونة المسرح وردهات الرقص، والأوبرا وما شاكلها مما يغشاه الناس اليوم في أمسياتهم والتي صارت مألوفة لديهم، فيقول رفاعة: "اعلم أن هؤلاء الخلق حيث إنهم بعد أشغالهم المعتاذة المعاشية لا شغل لهم بأمور الطاعات، فإنهم يقضون حياتهم في الأمور الدنيوية واللهو واللعب، ويتفننون في ذلك تفننا، فمن مجالس الملاهي عندهم محال تسمى التياتر بكسر التاء المشددة، وسكون التاء الثانية، والسبكتاكل، وهي يلعب فيها تقليد سائر ما يقع، وفي الحقيقة أن هذه الألعاب هي جد في صورة هزل، فإن الإنسان يأخذ منها عبرًا عجيبة، وذلك؛ لأنه يرى فيها سائر الأعمال الصالحة والسيئة، ومدح الأولى وذم الثانية حتى إن الفرنساوية يقولون: إنها تؤدب أخلاق الإنسان وتهذبها، فهي وإن كانت مشتملة على المضحكات فكم فيها من المبكيات، ومن المكتوب على الستارة التي ترخي بعد فراغ اللعب باللغة اللاتينية وما معناه باللغة العربية، "وقد تصح العوائد باللعب" -ويستمر رفاعة في وصفه، ويشبه الممثلات بالعوالم في مصر ثم يقول: واللاعبون واللاعبات بمدينة باريس أرباب فضل عظيم وفصاحة، وربما كان لهؤلاء الناس كثير من التآليف الأدبية والأشعار، ولو سمعت ما يحفظ اللاعب من الأشعار، وما يبديه من التوريات في اللعب، وما يجاوب من التنكيت والتبكيت لتعجبت غاية العجب، ثم يعرج على وصف الملابس التي يقوم بها الممثلون طبقًا لأدوارهم، والشخصيات التي يمثلونها تاريخية، أو واقعية ووصف المناظر التي تناسب المسرحية، وينتهي من كل هذا إلى تلخيص مهمة المسرح عندهم فيقول: "وبالجملة فالتياتر عندهم كالمدرسة العامة يتعلم فيها العالم والجاهل"، ثم يتناول بعد ذلك وصف دار الأوبرا وما يقوم بها من تمثيل، وموسيقى وغير ذلك من دور اللهو العديدة التي شده لها وأثارت عجبه.
ولم يكن وصف أدوات الحضارة وحده هو الجديد الذي قدمه رفاعة للغة العربية، ولكن ما تعرف له من وصف الحياة السياسية، والقوانين السائدة والدستور

الصفحة 33