كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

والحياة النيابية جعلته يقف أمام مصطلحات إدراية، وسياسية جديدة لم تعرفها العربية، وعلى معان جديدة طال عهد العرب بها حتى نسيت، فيترجم رفاعة القانون الفرنسي الأساسي، وينقل المادة الأولى منه على هذه الصورة: "كل واحد منهم مستأهل لأخذ أي منصب كان وأي رتبة كانت"، ويعلق عليها بقوله: "قوله في المادة الأولى سائر الفرنسيس مستوون قدام الشريعة معناه: سائر من يوجد في بلاد فرنسا من رفيع ووضيع لا يختلفون في إجراء الأحكام المذكورة في القانون، حتى إن الدعوة الشرعية تقام على الملك، وينفذ عليه الحكم كغيره، فانظر على هذه المادة الأولى، فإنها لها تسلط عظيم على إقامة العدل وإسعاف المظلوم، وإرضاء خاطر الفقير بأنه العظيم نظرًا لإجراء الأحكام، ولقد كادت هذه القضية أن تكون من جوامع الكلم عند الفرنساوية، وهي من الأدلة الواضحية على وصول العدل عندهم إلى درجة عالية، وتقدمهم في الآداب الحاضرة، وما يسمونه الحرية ويرغبون فيه هو عين ما يطلق عليه عندنا العدل والإنصاف، وذلك؛ لأن معنى الحرية هو إقامة التساوي في الأحكام، والقوانين بحيث لا يجوز الحاكم على إنسان، بل القوانين هي المحكمة، والمعتبرة".
إن رفاعة الطهطاوي يقدم لمواطنيه بمثل هذه التعليقات على القانون الفرنسي معاني جديدة للحياة الحرة، وكيف تكون العدالة، والمساواة، والحرية، وهي معان نسيها الناس طويلًا في عهود الظلمات، والعسف التركي والمملوكي، لقد كانت موجودة ولا شك في أوائل عهد الدولة الإسلامية وعصرها الذهبي، ولكنها طمرت وتناساها الناس من كثرة ما لاقوا من عنت، وإرهاق على يد المستعمرين، وكأني برفاعة وهو يسطر مثل هذه التعليقات ينظر إلى وطنه بعين الأسى حيث كان يلاقي الجور، والإجحاف على يد حكامه الجدد من أسرة محمد علي، وهذه الآراء الجريئة التي أيداها رفاعة الطهطاوي تدل على نزعته الفطرية إلى الحرية، وعلى حبه المكين لوطنه، ورؤيته ناعمًا متمتعًا بالعدالة، ولم يكن يتورع عن نقد الملك في شيء قام به، وفي هذا غمز لحاكم مصر المستبد، وتبيان للطريق السوي الذي يجب أن

الصفحة 34