كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

يسلكه الحاكم مع رعاياه إن آثر السلامة، والإنصاف كقوله معلقًا على موقف الملك شارل العاشر لما قامت الثورة في باريس: "فلما اشتد الأمر وعلم الملك بذلك وهو خارج، أمر يجعل المدينة محاصرة حكمًا، وجعل قائد العسكر
أميرا من أعداء الفرنساوية، مشهورًا عندهم بالخيانة لمذهب الحرية، مع أن هذا خلاف الكياسة، والسياسة والرياسة، فقد دلهم هذا على أن الملك ليس جليل الرأي، فإنه لو كان كذلك لأظهر أمارات العفو والسماح، فإن عفو الملك أبقى لملك، ولما ولى على عساكره إلا جماعة أحبابًا له وللرعية، غير مبغوضين ولا أعداء، مع أن استصلاح العدو أحزم من استهلاكه، ويحسن قول بعضهم.
عليك بالحلم وبالحياء ... والرفق بالمذنب والإغضاء
إن لم تقل عثرة من يقال ... يوشك أن يصيبك الجهال
وبمثل هذه الروح الشفافة الخيرة، والعقلية المتفتحة الناضجة راح رفاعة يصف مظاهر الحضارة، والثقاقة في فرنسا ويحلل ويوازن ويعلل، فيتكلم عن أسباب تقدم فرنسا وتخلف مصر، وعن العلوم والفنون والفرق بينهما، وعن العلوم التي يحذقها الغرب ولا نظير لها عندنا، ويتكلم عن اللغة الفرنسية والفرق بينها، وبين العربية من سهولة الأولى وصعوبة الثانية كما كانت تدرس في عهده، بل
نراه ينتقد في صرامة تدريس العلوم بمصر على عهده فيقول عن سهولة اللغة
الفرنسية، وتيسيرها الإفادة من العلوم: "فإذا شرع الإنسان في مطالعة كتاب في
أي علم كان تفرغ لفهم مسائل هذا العلم، وقواعده من غير محاكة الألفاظ، فيصرف سائر همته في البحث عن موضوع العلم وعن مجرد المنطوق والمفهوم،
وعن سائر ما يمكن إنتاجه منها، وأما غير ذلك فهو ضياع، مثلا إذا أراد
الإنسان أن يطالع علم الحساب، فإنه يفهم منه ما يخص الأعداد من غير أن
ينظر إلى إعراب العبارات، وإجراء ما اشتملت عليه من الاستعارات، والاعتراض
بأن العبارة كانت قابلة التجنيس وقد خلت عنه، وأن المصنف قدم كذا ولو أخره كان أولى وأنه عبر بالفاء

الصفحة 35