كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

في محل الواو والعكس أحسن ونحو ذلك ... "، وهذا في الحق كان طريقه عجيبة في تعليم الحساب لا تمت إليه بصلة، بل تعوق المتعلم وتصرف جهده إلى التمحك في العبارات وعلك الألفاظ، وضياع الجهد والوقت، وتفوت عليه فرصة تعلم الحساب، والعربية بريئة من كل هذا، ولكنها الطريقة العقيمة في التعليم التي سادت في عهود التخلف والظلمات".
وإذا نظرنا إلى هذه الباكورة في النثر الحديث وجدنا رفاعة فيما عدا المقدمة قد ترسل فيها، ولم يتقيد بالمنهج الكتابي الذي كان سائدًا في عصره، ولعل طبيعة الموضوع هي التي فرضت عليه هذا النهج، وسنرى أن الاهتمام بالمعاني ومعالجة الموضوعات الحديثة فيما بعد قد اضطر كثيرًا من الكتاب إلى البعد عن السجع والمحسنات، أما المقدمة فقد احتفى بها الكاتب وسجع فيها، وقد ظلت المقدمات والتقريظات، والرسائل الخاصة ردحًا طويلًا من الزمن حتى بعد عهد رفاعة تصطنع الأسلوب المسجوع، وسنعود إلى ذلك فيما بعد إن شاء الله.
والذي يعنينا هنا أن الكتابة النثرية كان لها منذ ذلك الوقت أسلوبان: أسلوب الترسل، وأسلوب السجع وظل الكتاب يراوحون بينهما أمدا غير يسير، حتى أخريات القرن التاسع عشر حين تغلب الترسل على السجع.
مضى عصر محمد علي، ولم يظهر من رجال هذه الطليعة التي تثقفت ثقافة غربية من نبغ في الكتابة إلا رفاعة الطهطاوي، ولكنه طول عصر محمد علي -بعد عودته إلى مصر- شغل بالترجمة، وبإدارة كثير من المدارس والمؤسسات، ولم يعن بالتأليف إلا في عصر إسماعيل.
أجل! لقد وضع رفاعة بترجماته بعض البذور الطيبة في الأرض الطيبة لتنتج النثر الحديث، وأثرى اللغة العربية بالموضوعات الجديدة والقوالب الحديثة، من ذلك ترجمته لقصة "تليماك" للأب فنلون الفرنسي، وهي أول قصة فيما نعلم ترجمت إلى العربية في العصر الحديث، وفضلًا عن ذلك فهو يمثل أول محاولة لنقل الأدب الأسطوري اليوناني إلى الفكر العربي، وقد وصف رفاعة هذه الترجمة

الصفحة 36