كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

كبير ووالد غيور بدلًا من تلمسه في كتب لا رقيب عليها تثير الغرائز الدنيا، وتدفع إلى الفساد.
ومن مباحثه القيمة حديثه عن الوطن والمواطن الصالح، والأسرة وبنيانها وصلاحها، ونرى رفاعة يزاوج بين الترسل والسجع، فحين تأخذه العاطفة يرتفع أسلوبه ويختار كلماته، ويأتي بالعبارات مسجوعة، وإن زال عنها التكلف غالبًا من مثل قوله يعرف الوطن: "الوطن هو عش الإنسان الذي فيه درج، ومنه خرج، ومجمع أسرته، ومقطع سرته، وهو البلد الذي نشأته تربته وغذاه هواؤه، ورباه نسيمه وحلت عنه التمائم فيه، قال أبو عمرو بن العلاء: مما يدل على حرية الرجل، وكرم غريزته حنينه إلى أوطانه، وتشوقه إلى متقدم إخوانه، وبكاؤه على ما مضى من زمانه، والكريم يحين إلى أحبابه كما يحن الأسد إلى غابة، ويشتاق اللبيب إلى وطنه كما يشتاق النجيب إلى عطنه، فلا يؤثر الحر على بلده بلدًا، ولا يصبر عنه أبدًا: قال الشاعر:
بلاد بها نيطت علي تمائمي ... وأول أرض مس جلدي ترابها
وقال آخر:
بلد صحبت بها المشيبة والصبا ... ولبست ثوب العيش وهو جديد
فإذا تمثل في الضمير رأيته ... وعليه أثواب الشباب تميد
ونراه يتكلم عن مصر كلام المحب الوامق، الذي شغفه الوطن حبًا، فكل ما فيها جميل، دليل الوطنية الصادقة، التي بدأت تبزع أنوارها في القلوب، بعد أن كانت الوطنية كلمة لا مدلول عليها عند المصريين قبل ذياك التاريخ، إذ كانوا يشعرون بالتبعية لخليفة آل عثمان، ولم يفكروا في بلادهم كوطن مستقل له كيانه ومقوماته.
وقد اشتدت هذه النزعة في هذه الحقبة لا عند رفاعة فقط، بل عند كثيرين سواها كما سنرى بعد قليل.

الصفحة 42