كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

لقد كانت الجوائب منتشرة في العالم العربي الإسلامي، ولذلك كان تأثيرها قويًا، بيد أننا نرى نوعًا من الصحافة سمي بالصحافة الأدبية، ولا شأن له بالسياسة، وكان من أول هذه الصحف الأدبية ظهورًا "روضة المدارس" التي ظهرت بمصر سنة 1870 بوحي من على مبارك، وبإشراف رفاعة الطهطاوي، وقد أثرت في مقالاتها، ومقاماتها -وكثيرًا ما تخلط بينهما- ذلك الأسلوب المسجوع الموشي بالمحسنات وألوان الخيال، وروجت الشعر والقصص الموضوعة والمترجمة، وكان يحرر بها عدد من نابهي الكتاب في ذلك الحين، وتوزع على طلبة المدارس بالمجان، وقد نشرت بها كتب كثيرة مترجمة في سلاسل متتابعة، بعضها في العلوم وقليل منها في الآداب، والذي يعنينا أن الأسلوب المسجوع، وجد فيها موئلًا وملاذًا.
مدرسة جمال الدين الأفغاني، وأدب المقالة:
كانت الصحافة حتى مجيء جمال الدين الأفغاني إلى مصر في مارس 1871 لا تجرؤ عن الخوض في المشكلات السياسية إلا بقدر ولا تمشي إلا بحذر، متجنبة ما يغضب الأمير أو يثير الوزير، قانعة بالأخبار التي تنشرها الصحف الأجنبية، وتنقلها عنها بعد أن تمر على رقيب صارم لا يرحم، فرضه إسماعيل سوطًا لاذع الضربات على الصحافة في عهده، وكانت تكتفي بنشر المعلومات عن دول الغرب، ومجتمعاتها دون أن تتعرض لمساوئ المجتمع العربي بمصر، وغيرها وما فيه من أوضار، وفروق شاسعة في مستوى الحياة بين سكانها، وكيف كان الفقر والجهل، والمرض تفتك كلها بجمهرة أبنائها، وكيف كان المال يتفدق غزيرًا على موائد السفه بين أنامل القلة الضئيلة من قطانها، وكيف كان الأجانب يستمتعون بخيراتنا، ولا يتركون لنا سوى الفتات، ويستأثرون بثرواتنا، ونحن عندهم عبيد غير مأجورين، وخدام غير مشكورين نحس بالغربة في وطننا، ولا نجد ملجأ نلوذ به من الظلم الفادح، والضرائب المرهقة التي جعلت الفلاح يترك أرضه هربًا من فداحتها، وعجزه عن أدائها.

الصفحة 57