كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

"فيا لها من جريدة أسست قواعدها في القلوب، وامتدت مبانيها لكشف الغيوب، تنادي بمقالها وحالها: حي على الفلاح، وهلموا إلى موارد النجاح، لا تقفوا عند صورة المبنى، ولكن تجاوزوا إلى المعنى، تلك أوهام أشباح، وهذه غذاء أرواح، تلك ظواهر صور، وهذه دقائق عبر، تلك مساكن أموات، وهذه لسان سر السماوات.
ونجد كذلك مقالاته تتوالى في الأهرام على هذا النمط من الكتابة كمقالة: "فن القلم والكتابة" و"المدبر الإنساني والمدبر العقلي الروحاني"، وقد نشرت الأخيرة في30 من ديسمبر سنة 1876، ثم "العلوم الكلامية، والدعوة إلى العلوم العصرية" وغيرها، كان الشيخ في هذه الآونة طالبًا لم يتخرج في الأزهر بعد، ولكن على الرغم من هذا السجع المتكلف، فإن هذه المباحث دلت على نفس طموح محبة للإصلاح فيها جرأة ومضاء، إذ كان مما يزري بطالب العلم بالأزهر حينئذاك أن يصطنع الكتابة في الصحف السيارة، ولكن محمد عبده وجد الصحافة منبرًا عاليًا يذيع منه آراءه الإصلاحية، فلم يثنه شيء عن اتخاذه أداة لبث أفكاره، ونشر دعوته.
وكان السجع حتى هذه الآونة له منزلة في القلوب تدل على مقدرة الكاتب وبراعته، ولا ريب أن الشيخ كان يمكن لنفسه في عالم الكتابة، ولذلك آثر هذا اللون حتى لا يتهم بالعي أو التقصير، ولكنه عدل عن هذه الطريقة في الوقائع المصرية، وبتأثير من أستاذه جمال الدين الذي وجهه إلى الاهتمام بالمعاني، وبمعالجة الموضوعات الحية التي تمس الحاجة إليها، وهو وإن عدل عن السجع إلا أنه آثر الازدواج، فأنت جملة متسقة متناسبة في الطول من غير قافية، وفيها ترادف صوتي، كما نراه عمد إلى البساطة في التعبير حتى يفهمه أكبر عدد من القراء، فترك استعمال الكلمات الغريبة، وتكلف الخيال والاستعارات والتشبيهات، كما نرى في هذه المقالات كثيرًا من الكلمات العامية، كما في مقاله "حب الفقر وسفه الفلاح" المنشور في 25 من نوفمبر سنة 1880، إذا ورد فيه مثلًا "وإرادته الغير مرتبة"، وأل لا تدخل على غير لاستغراقها في الإبهام، واستعماله "البنوك" بمعنى المصارف و"القرباج" بمعنى السوط، وقد كتب تحت هذا العنوان "مرة ثانية في

الصفحة 62