كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

الموضوعات الأخلاقية، والعيوب الاجتماعية المتخلفة من زمن الظلم، والاستعباد حتى صارت هذه الرذائل عادات متمكنة في نفوس العامة والخاصة.
فلما شبت الثورة العرابية كان محمد عبده من المناوئين لها أول الأمر؛ لأنه كان من دعاة الإصلاح البطيء؟، وتهيئة الأمة عقليًا ونفسيًا لتتحمل تبعات الحكم، كما أنه كان سيئ الظن بأحمد عرابي، ولقد صرح بآرائه هذه في جرأة، فمن دعوته إلى الإصلاح البطيء قوله: "وإنما الحكمة أن تحفظ لها "أي الأمة" عوائدها الكلية المقررة في عقول أفرادها، ثم يطلب بعض التحسينات فيها لا تبعد منها بالمرة، فإذا اعتادوها طلب منهم ما هو أرقى بالتدريج، حتى لا يمضي زمن طويل إلا وقد انخلعوا عن عاداتهم، وأفكارهم المنحطة إلى ما هو
أرقى وأعلى من حيث لا يشعرون"، ويقول في مقال آخر منددا بالمطالبة بالدستور على يد العسكريين:
"ليس من الحكمة أن تعطي الرعية ما لم تستعد له، فذلك بمثابة تمكين القاصر في التصرف بماله قبل بلوغه سن الرشد، وكمال التربية المؤهلة والمعدة للتصرف المفيد"، ويقول مرة أخرى، وكأنه كان يتكلم بلسان القدر:
"إن الأمة لو كانت مستعدة لمشاركة الحكومة في إدارتها شئونها لما كان لطلب ذلك بالقوة العسكرية معنى، فما يطلب به رؤساء العسكرية الآن غير مشروع؛ لأنه ليس تصويرًا لاستعداد الأمة ومطلبها، ويخشى أن يجر هذا الشعب على البلاد احتلالًا أجنبيًا يسجل على مسببه اللعنة إلى يوم القيامة".
وكان يرى أن الشرق إنما ينهض على يد مستبد عادل يحكمه خمس عشرة سنة يصنع فيها ما يصنعه العقل وحده في خمسة عشر قرنًا، مستبد "يكره المتناكرين على التعارف، ويلجئ الأهل إلى التراحم، ويقهر الجيران على التناصف، يحمل الناس على رأيه في منافعهم بالرهبة، إن لم يحملوا أنفسهم على ما فيه سعادتهم بالرغبة، عادل لا يخطو خطوة إلا ونظرته الأولى إلى شعبه الذي يحكمه"، ومن سوء الحظ أن هذا كان رأيه في رياض باشا، وقد كرر رأيه هذا في عدم استعداد الأمة للدستور أكثر من مرة وبأساليب متباينة، وألح عليه إلحاحًا شديدًا متناسيًا ما قام به الحكام المستبدون في مصر من جرائم، وكان

الصفحة 64