كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

آخرهم إسماعيل الذي أرهق الناس بالضرائب، إشباعًا لنزواته، وسد طلباته، حتى هجروا أرضهم هربًا من السياط والحبس ومصادرة الملك، استمعوا إليه بقول وقد ناقش عرابي في هذه القضية: "كنت معروفًا بمناوأة الفتنة، واستهجان ذلك الشعب العسكري، وتسوية رأي الطالبين لتشكيل مجلس النواب على ذلك الوجه، وبتلك الوسائل الحمقى ... مررت ببيت "طلبه" ثالث يوم عيد الفطر فسمعت جلبة، ورأيت بعضًا من صغار الضباط يجولون من جانب إلى آخر من البيت، فدخلت للزيارة، فوجدت عرابي، وجمعًا غفيرًا من الضباط، ووجدت معهم أحد أساتذة المدرسة الحربية، فجلست واستمر الحديث في وجهته، وكان موضوعه الاستبداد والحرية، وتقييد الحكومة بمجلس النواب، وأن لا سبيل للأمن على الأرواح والأموال إلا بتحويل الحكومة إلى مقيدة دستورية، فأخذت طرفًا من البحث، فأقمنا على الجدل ثلاث ساعات، وكان عرابي والأستاذ في طرف والكاتب في طرف، وهما يقولان: إن الوقت قد حان للتخلص من الاستبداد، وتقرير حكومة ثورية، والكاتب يقول: علينا أن نهتم الآن بالتربية والتعليم بضع سنين، وليس من اللائق أن نفاجئ البلاد بأمر قبل أن نستعد له، فيكون من قبيل تسليم المال للناشئ قبل بلوغ سن الرشد يفسد المال، ويفضي إلى التهلكة".
أما رأيه في عرابي فقد عبر عنه بقوله: إنه شهم في الكلام ضعيف في الحرب، أليق به أن يكون واعظًا للعوام من أن يكون زعيم أمة".
اضطر محمد عبده تحت تأثير الحوادث أن يشتغل بالسياسة على طريقته، وأن يكتب المقالات السياسية في الوقائع، ولما اشتدت الثورة، وانضمت إليها الأمة جمعاء، وجد محمد عبده نفسه مضطرًا؛ لأن يسير مع الجماعة، وبخاصة حين وجد الأمر يتعلق بكرامة الأمة بعد أن تدخل الأجانب، واستعان بهم توفيق، وصار محمد عبده قوة روحية للثورة، يأخذ المواثيق ويحرر بيانات الثورة للشعب وللدول، ويحض قومه على التجنيد، ويحمسهم للقتال ولا يدخر في سبيل ذلك وسعًا، وكان يستعين بالوقائع -وهي الجريدة الرسيمة- على نشر أفكار الثورة، وصار يرى: "إن مصر أصبحت صالحة لحكم نفسها بنفسها، وأن الثورة قد علمت الناس الاتجاه نحو المنافع العامة، فلم يعودوا في حاجة إلى تربية وتعليم".

الصفحة 65