كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

ولما أخفقت الثورة سجن محمد عبده مائة يوم، ثم حكم عليه بالنفي فاتخذ بيروت ملجأ، والذي يهمنا في هذه المرحلة أمران: أولهما أن أسلوب محمد عبده قد لان وسهل، ولا سيما أسلوبه الصحفي؛ لأن الحوادث جرت بسرعة، وكان مضطرًا إلى ملاحقتها، ولم يكن لديه الوقت للتأنق، واصطناع الازدواج بله السجع؛ ولأنه كان يخاطب الجماهير، ويشرح قضايا هامة تحتاج إلى توضيح معانيه، ونراه قد استخدم الأقيسة المنطقية والبراهين، وعنى بترتيب الفكرة، وتقليبها على شتى وجوهها، وكان في كلامه حرارة الإيمان وقوة اليقين بما يكتب، وبذلك ثبتت على يديه معالم النثر الاجتماعي، والسياسي تلك التي ابتدأها رفاعة الطهطاوي، ثم أحمد فارس الشدياق.
وثانيهما أن هذا لم يكن كل ما عمله محمد عبده من أجل تطوير النثر، ولكننا نراه وقد تولى تحرير الوقائع يشرف على الكتابة الديوانية في كل مصالح الدولة، وعلى الجرائد والمجلات، وقد عنى بتصحيح الكتابة وتقويمها، ومعاقبة المقصرين في هذا الشأن سواء من كتبه الدواوين أو محرريى الصحف، وفي هذا يقول: "أول ما بدأت الجريدة بانتقاده طريقة التحرير التي كانت متبعة في النظارات والإدارات، فأخذت تبين وجه الخليل بها وإضرارها بفهم المعاني المطلوبة، ثم ترسم الطريقة المثلى التي يجب السير عليها، فلم تمض أشهر قليلة حتى ظهر فضل ذوي الإلمام باللغة العربية من موظفي الحكومة، وحضهم رؤساؤهم على مكاتبة الجريدة الرسمية، سترا لعيوب الإدارات، واضطر الجاهلون باللغة والتحرير إلى استدعاء المعلمين، أو المبادرة إلى المدارس الليلية ليتعلموا كيفية التحرير".
وقد أنذر الشيخ مرة مدير جريدة مشهور بتعطيل جريدته إذا لم يختر لها محررًا صحيح العبارة في مدة معينة، فأسرع مدير الجريدة إلى تنفيذ ما أراده الشيخ، وبهذا صار محمد عبده مشرفًا على الأداة الحكومية جميعًا، وعلى الصحافة وتحريرها.

الصفحة 66