كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

أدبه، وعلا قدره، وتفتحت مواهبه، ولذلك يقول عنها وهو في غربته: "مصر، ولا حياء في الحب، بلد تركت فيه زهرة أيام الشباب، وخلفت غرس الآداب، وهززت غصن الأماني رطيبًا، وليست ثوب الآمال قشيبًا، فما عدلت بي عن حبها النكبة، ولا أنستني عهدها الغربة، ولست أول محب زاده الحب وجدا، ولم ينكث على العهد عهدًا، فحذار أهل مصر فإن العدو لكم بالمرصاد، وإنكم لمحفوفون بالعيون والأرصاد".
ومع أن هذا الكلام مسجوع، فإن غير مصطنع أو متكلف، وإن وردت فيه عبارات محفوظة كثيرًا ما نراه يرددها مثل "غصن الأماني الرطيب، وثوب الآمال القشيب".
وتراه أحيانًا وهو في غربته، يذوب أسى وكمدا حينما يوازن بين ما يراه من نعمة سابغة يتقلب فيها الفلاح الفرنسي، وما يلاقيه فلاح مصري في سبيل ما يقيم الأود، ويسد المسغبة من ذل وإرهاق، وكيف يعيش عيشة الحرمان قريبًا من عيشة الحيوان، مثل قوله تحت عنوان "نفثة مصدور":
"وأنا تحت سماء الإنصاف على أرض الراحة بين أهل الحرية أسمع ألحانًا في مجلس العدل، فأذكر قومي في مجالس الظلمة، وتحت سياط الجلادين، فأنوح نوح الثاكلات، وأرى علائم النعمة في معاهد المساواة، فأذكر شقاء سربي في ربوع الظلمة، فأذرف الدمع ممتزجًا بسواد القلب فأكت إليهم: يا قوم! ظلمتم غير معذورين وصبرتم غير مأجورين، وسعيتم غير مشكورين، فهلكتم غير مأسوف عليكم، تصبرون على الظلم حتى يحسبه الناظر عدلًا، وتبتسمون للقيد حتى يظنه الناقد حليًا، وتخفضون للظالمين جناح الذل، حتى يقول من يراكم ما هؤلاء بشرًا إن هؤلاء إلا آلة سخرت للناس يفلحون بها الأرض ويزرعون، يقلب الجائرون عليكم أنواع المكايد وأصناف الحيل، وألوان الخداهع فيما يختلسون، كما تقلب المشعوذة لدى الأطفال أوجه الودعات في استخراج ما يضمرون.
رأيت فلاحهم في حقله الصغير يتناول الطعام أكلًا مريئًا، وينام القيلولة نومًا هنيئًا، ويأوي إلى البيت فيأكل بين عائلته، ويتلو عليهم صحيفة النهار، ثم

الصفحة 74