كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

ينام ملء غينيه، لا يحلم بسوط المأمور، ولا يتصور عصا الشيخ، ولا يتذكر حبس المدير، فتخيلتكم بين السواقي، والأنهار تشتغلون سحابه اليوم لتجتمعوا على القصعة السوداء، فتلتهموا فئات الشعير، وتنكبوا على الترع فتشربوا الماء الكدر، تعودون إلى الأرض المريعة تزرعونها، والغلة الوفيرة تحصدونها، لتنصرفوا إلى أكواخ بالية تشبه قبورًا توالت عليها السنون، فيجتمع من حولكم صغار لا تعرف أبدانهم الوفاء، ونساء تعوضن الأقذار عن الكساء، ثم يأتيكم المأمور سالبًا، والشيخ غاضبًا، والمدير ناهيًا، فأنتم في بلاء مستقر، وعناء مستمر، تحصدون البر ولا تأكلون، وتملكون الأرض ولا تسكنون".
فهذا تصوير أدبي رافع لحال الفلاح المصري الزرية، وكيف كان يستغله السادة، وكيف استنام للذل، ورضى بالعيش الدون مع لمحة خاطفة عن حال الفلاح الفرنسي، وما يتمتع به من ألوان الهناءة، وفي ذلك تحريض ولا شك لفلاحي مصر كي يخلعوا نير العبودية، وينشدوا حياة أقوم وأحسن.
ونلحظ في هذا النص أنه أكثر من استخدام الطباق، وأنه كان يعتمد الإتيان به، وأن بعض استعاراته ليست مطبوعة، وإنما عليها مسحة من التكلف مثل قوله: "فأذكر شقاء سربي في ربوع الظلمة، فأذرف الدمع ممزوجًا بسواد القلب"، ومع هذا فالنص في جملته قوى ولا سيما تلك العبارات التي اتكأ فيها على الجمل القرآنية.
ولكن أديب حاول التخلص من السجع، وبخاصة في نثره الصحفي، وإن ظلت عبارته مرتفعة، بل نراه أحيانًا ينعى على السجع وتكلفه، ويدعو إلى النثر المرسل، ولعل هذا كان بتأثير من أستاذه جمال الدين، أو؛ لأنه رأى أن السجع يفوت عليه المعنى المراد، ويدعوه إلى التكلف وترديد عبارات محفوظة، وفي هذا يقول من مقال بعنوان، "صناعة الكتابة".
والنثر هو الكلام المطلق المرسل عفو القريحة بلا كلفة، ولا صنعة إلا ما يكون من وضع الكلام في مواضعه، وإيثار ما يألفه السمع والطبع منه فهو من هذه الوجهة مقدم على سائر أنواع الكلام، بل هو الأصل في الإنشاء، وما سواه فرع

الصفحة 75