كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

منه، فإنه طبيعي أصيل، وما دونه صناعي حادث، والأصل في الطبيعة لا محالة، يدل على أن هذا الكلام المقفي الذي يسمونه سجعًا لا يكاد يوجد في غير اللسان العربي، فلو كان طبيعيًا لوجب أن يكون في جميع اللغات، أو في المعدودة منها أصولًا على الأقل.
ويبين لنا المواطن التي يحسن فيها السجع كما يرى فيقول: وهو وإن حسن في بعض الأماكن كصدور الخطب، ومقاطع الكلام بما فيه من تناسب الألفاظ وتناسب الفواصل التي يحسن وقعها في الأسماع، إلا أنه في الجملة دون المرسل البليغ بهجة وصفاء، وموافقة لمقتضى الحال، لقيد الكاتب فيه بلفظ لا بد منه أو
من أخيه، فلا ينبغي استعماله في بيان الحقائق العلمية، ولا في إيضاح الأصول الأدبية، ولا في غير ذلك من مواضع النقد والسرد إلا إذا جاء عفوًا غير مقصود بالذات".
وأورد أديب ما ذكره ابن خلدون عن السجع وكيف نشأ، وكيف صار صنعة وتكلفًا، وأبدى إعجابه برأي ابن خلدون وذكر نموذجًا من كتابته المرسلة تأييدًا لهذا الرأي الجديد، ثم يقول: "وجل كلام ابن خلدون ولا سيما في مقدمة تاريخه على هذا النحو من السلامة، ومناعة التكلف".
وذكر بعد هذا رأي علي بن الرماني في وصف البلاغة، وأنها: "ما حط التكلف عنه وبنى على التبيين، وكانت الفائدة أغلب عليه من القافية، وجمع سهولة
المخرج من قرب المتناول، وعذوبة اللفظ مع رشاقة المعنى".
ثم ذكر بعض ما استحسنه من الكلام المسجوع كمقامات الحريري، ورسائل بديع الزمان الهمذاني، وقطع كثيرة للقاضي الفاضل، وجملة غير يسيرة لكتاب مصر من بعدهم إلى انقراض الدولة الفاطمية.
ثم اشتد في حملته على الموروث من هذا السجع حتى عصره فقال: "ولم يدخل هذا السجع كلام القدماء في الجاهلية، وصدر الإسلام إلا ما كان منه عفو القريحة، فواصل غير مقفاة، أو يعزى إلى الكهان، والمشعوذين مما يراد به الإيهام والإبهام، فلما استولت العجمة على الألسن، وضعفت قوة الاختراع في الأذهان

الصفحة 76