كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

سرى داؤه في المكاتبة إلى هذا العهد، فعدل الكتاب عن الكلام الفحل واللفظ الساذج، والأسلوب الطبيعي إلى هذه الأسجاع الملفقة البالية، يتناقلونها خلفًا عن سلف، ويطيلون بها الكلام بلا طائل سترًا لقصورهم في ابتداه المعاني، وإيضاح وقائع الحال من طريقة البلاغة والإيجاز، حتى صارت من العادات، وحصلت بين الملكات، فدخلت في المراسلات الإخوانية، والمكاتبات من الملوك والأمراء في عظائم الأمور، وسقط من ورائها الكلام المرسل إلى غاية السفالة والركاكة، فصار ما يكتب منه رطانة يفهمها بعض الجهلاء، وتعمى على الراسخين في العلم".
ثم بين لنا بعد هذه الطريقة التي يرتضيها متخذًا من نصيحة ابن أبي الإصبع نهجًا يسلكه، قال ابن أبي الإصبع: "لا تجعل كلامك كله مبنيًا على السجع، فتظهر عليه الكلفة، ويتبين فهي أثر المشقة، وتتكلف لأجل السجع ارتكاب المعنى الساقط واللفظ النازل، وربما استدعيت كلمة للقطع رغبة في السجع، فجاءت نافرة من أخواتها قلقة في مكانها، بل اصرف كل النظر إلى تجويد الألفاظ وصحة المعاني، واجهد في تقويم المباني، فإن جاء الكلام مسجوعًا عفوًا من غير قصد، وتشابهت مقاطعه من غير كسب كان، وإن عز ذلك فاتركه، وإن اختلفت أسجاعه وتباينت مقاطعه، فقد كان المتقدمون لا يحتفلون بسجع جملة، ولا يتقصدونه إلا ما أتت به الفصاحة في أثناء الكلام، واتفق من غير قصد ولا اكتساب، وإنما كانت كلماتهم متوازنة، وألفاظهم متساوية، ومعانيهم لاصقة، وعبارتهم رائقة، وفصولهم متقابلة وجعل كلامهم متماثلة".
وقد رأينا من النماذج التي أوردناها لأديب أنه كان يوافق أحيانًا في سلوك هذا النهج، فيأتي كلامه في القطعة الواحدة مسجوعًا وغير مسجوع، ولكنه يختار كلماته بدقة، متناسبة في جرسها، وتأتي جملة قصيرة الفواصل إن لم تكن مسجوعة، ففيها ازدواج وهوة الترادف الصوتي شأن الأسلوب الخطابي الممتاز لا يوفق أحيانًا، فتأتي سجعاته متكلفة وإن كان ذلك نادرًا، وإن كفلت؟؟؟ وبديع خياله لكلامه في عمومه شيئًا من الطلاوة والجمال.

الصفحة 77