كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

ولم يكتف أديب في مقاله هذا عن صناعة الكتابة بالوقوف عند حد الأسلوب، ولكنه تكلم عن الكاتب وصفاته، وبين أن ما ذكره الأقدمون من شروط يجب أن تتوفر في الكاتب صالحة لزمانهم، وأما ما يشترطه هو في الكاتب "فهو من جهة الأدب: الاجتهاد والثبات، والاستقامة، ورعاية الحقوق، وحفظ الواجبات، ومؤدى قول الحكيم الفرنسي الموجه إلى كل الناس:
ذاتك احفظ وتفقه واعتدل ... واحي للناس ليحي للناس لك
فهو هنا يخرج بالكتابة الفنية إلى معنى جديد، ويبعدها عن الذاتية، ويريد من الكاتب أن يشغل نفسه بقضايا قومه وما يهمهم في حياتهم، مع الاعتدال، والتمكن من أصول الصنعة، واحترام النفس ومراعاتها وحفظها.
ولا بد للكاتب أن يعلم أصول اللغة ليعصم لسانه عن الخطأ ما أمكنت العصمة لإنسان، ويكون على حظ من العلم والأدب.
ولأديب إسحق بجانب ميادينه القومية، والسياسية قطع نثرية وصفية تتناول أحيانًا أمورًا معنوية وأحيانًا أمورًا مادية، فيقول مثلًا عن الحرب:
"عرف الإنسان مضار الحرب ولم يتجنبها، فهل تلك طبيعة وجدت في كيانه الحيواني أم عادة تمكنت فيه بالاستمرار، فصارت ملكه يتعذر التخلص منها، وهي مسألة تؤدي إلى النظر في: هل طبع على الخير أو الشر، أو كان من عجائبه أن اجتمع فيه النقيضان، يجني على نفسه الحرب وهي بلية، حتى إذا بلغت منه مبلغها بادر إلى تخفيف مضارها، فمنه الداء والدواء، والسم والدرياق، وهو بالجملة أو العجب، أما تراه قد فتح في القرن التاسع عشر سوق حرب، راجت فيها النفوس، ولم يكن السياق أو البسوس، وإنما هي ثمرة الهوى ونتيجة للغرور، فلما أنشبت فيها أظفارها وأضرمت في حماه نارها، طلب الماء لإطفاء اللهيب فهو الهادم والباني، والزارع، والجاني".
ويقول عن جرحى الحرب وما يعانون في أسلوب تتراكم فيه الاستعارات والتشابيه، فناء بها ونبا عن الذوق السليم: "في معترك أو مضت فيه بروق

الصفحة 78