كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

المرهفات، ولعلعت رعود المدافع، فتلتها غيوث الكرات، وسكرت السيوف بخمر من الدم فعربدت في الرءوس، وعقد العثير لملك الموت سرادق مطنبة بالقنا، والخيل ساغبة تقبل ثقالًا وتعود خفافًا، وكأنها وقد أعياها الفارس حربًا قد غضبت على الإنسان فداست هامه انتقامًا، وقد استحيت الشمس من خشونة الإنسان، فاحتجبت بحجاب الضباب، وتململت الأرض من أعماله فزلزلت زلزالها، وكادت تخرج أثقالها، فارتعد الرعديد وثبت الصنديد، ونادى منادي الحرب: من فر من الموت في الموت وقع، ومن كان ينوي أهله فلا رجع ... إلخ".
فتلك الاستعارات والتشابيه المتلاحقة كالحلى المكدسة من غير ذوق، أو نظام على صدر فتاة تغض من جمالها وتزري بشأنها بدلًا من أن يزيد من مفاتنها وتبرز من محاسنها، أو كالألوان المتراكمة الصارخة على صفحة الصورة لا توضح سماتها، وتجلي معالمها وإنما تزيدها غموضًا.
لقد كان أديب يلجأ إلى هذا الأسلوب الغاص بالأخيلة حين يشتد انفعاله، وحين يدبج قطعة أدبية كتلك التي كتبها يطري عيشة الخلاء وفيها يقول: "لقد سكن الهواء، وفتر الماء، ووقعت سهام الشمس على الرأس، وثقلت وطأة الليل على النفس، فما لطلاب الهناء سوى الخلاء، وما لإخوان الصفا غير القضاء، فاهجر هواجر الحواضر، وذر مفاسد المحاشد، وسر بي بسرب الآداب، وصحبة أولي الألباب، نلتمس في الجبال نسيمًا بليلًا، وفي الأودية ظلًا ظليلًا".
فالسجع والاستعارات، وتعمد المحسنات ولا سيما الجناس غير التام ظاهرة واضحة في مثل هذه القطع الأدبية، وكثيرًا ما كان يطرزها بأبيات من الشعر.
ومثل ذلك ما كتبه في مجاعة حلت عام 1880 حيث يقول: "هو الظلم حتى تمطر السماء بلاء، فتنبت الأرض عناء، فلا تجد على سطحها إلا جسومًا ضاوية في ديار خاوية، وقلوبًا تحترق في بلاد تحت رق، وهو الجهل حتى تضيع الأخطار، وتفنى الأقدار، وتبطل الهمم، وتزول القيم، ويعفو العلم. ويدرس الفهم، ويستعلي الخامل، ويستولي الجاهل، وتنخفض الرءوس وتنقبض الأنفس وحتى نرى:

الصفحة 79