كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

بكل أرض في شرقنا أمم ... ترعى بعبد كأنها غنم
يستخشن الخز حين يلمسه ... وكان يبرى بظفره القلم
لقد مثل أديب مرحلة هامة من مراحل تطور النثر الحديث، في أسلوبه القوى وكلامه الطلي، وخروجه بالأدب عن الذاتية إلى الموضوعية، وجعله كل شئون الحياة مجالًا لقلمه، واهتمامه بالفكرة بجانب العبارة، وبمحاولته في المقال الصحفي الابتعاد عن السجع إلا ما جاء عفو الخاطر، والارتفاع به إلى المستوى الأدبي الرفيع، ووضعه أصولًا وقواعد للمقالة الأدبية بعد أن كان الكتاب لا يفرقون بين المقالة والمقامة، وحتى بعد أن عرفوا المقالة الحديثة، كانوا يستهلونها بمقدمات تستهلك جزءًا من طاقة الكاتب والقارئ، ويطيلها بعضهم حتى تبلغ العشرين صفحة، ويتناول أحدهم قلمه ويتكره على سجيته مقتفيًا أثر انفعاله، فيسيح بنا سياحة وجدانية، ويستطرد إلى شتى الميادين، وقد يلذ لنا ما يكتب ولكن لا نكاد ننتهي من القراءة حتى لا نجد وحدة تجمع شتات الموضوع، وإنما هي خطرات واستطرادات، وأفكار مبعثرة هنا وهناك كما كان حال النديم في مقالاته، وأحيانًا نرى الفكرة المنطقية، والاتجاه العقلي، والميل إلى الحيدة في الأحكام وفي سرد الحقائق كما نرى في مقالات محمد عبده واللقاني.
أما أديب فكان يدين بالنظام والترتيب، فالمقالة وإن كانت ذاتية تعبر عن رأي الكاتب في موضوع من الموضوعات، إلا أنها في أشد الحاجة إلى التنسيق "فإنه لا يكفي أن يكون هناك خاطر، بل لا بد من ملاحظة النظام في كيفية إيضاحه، فإنه لا جلاء بدون تنسيق، وعوضًا عن الإفادة والإعجاب، والتأثير والإقناع يتعب القارئ عبثًا، وقبل الكتابة لا بد من وضع رسم، ولو رءوس أقلام، فإذا إذا لم يوضع الرسم يرتبك الذكي، ولا يعرف كيف يبتدئ، وكذلك يدخل في تفاصيل مملة، ويضيع المسألة المهمة ويصبر مظلمًا كلما اجتهد في الإيضاح، ومن أين له أن قارئيه يصبرون إلى أن يعود ليهتدي سبيله، وفي الكتابة القصيرة لا يستغني ألبتة عن هذا الاسم، ولكن العادة تجعله مصورًا في الذهن.

الصفحة 80