كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

والامتيازات الأجنبية وطأتها، وتصور ألم مصر من هذا المرض الإفرنجي، وأملها في النجاة بسعي العقلاء وتفكير المستنيرين، وتوريته بالإفرنجي عن هذه المصائب التي حلت بالبلاد تورية بارعة، "وقد استهلها بقوله: "كان هذا المصاب صحيح البنية، قوي الأعصاب، جميل الصورة، لطيف الشكل، ما رآه فارغ إلا صبا، ولا سمع بذكره بعيد إلا طار إليه شوقًا، وقد مات في حبه جملة من العشاق، الذين خاطروا في وصله بالأرواح والأموال، وكلما وصل إليه واحد سحره برقة ألفاظه، وعزة لا يشاركه فيها مشارك، وهو غزال في الخفة وغصن في اللين، وبدر في البهجة، وجنة في المنظر، تمر عليه الدهور فتزيده حسنًا وتتوالى عليه العشاق فتزداد هيامًا، وأهله فرحون بهذا الفريد، والطالع السعيد يعشقون الموت في حياته، وقد اتفقوا على توحيد كلمتهم في حفظه ... إلخ".
وهنا نرى اسلوبًا لا التواء فيه ولا تعقيد، وإن كان يعتمد على ترادف الجمل على المعنى الواحد، وجاءت قوته من حسن اختياره للألفاظ، وقصر الجمل، والازدواج، والسجع المطبوع.
بينما نراه في أسلوبه العامي خبيرًا في إيراد الكلمات الدارجة المحلية، كما نرى في مقاله "عربي تفرنج"، إذ يحكي قصة فتى من أبناء الفلاحين أتيح له أن يتعلم في أوروبا، وعاد ممسوخ اللسان، والشخصية متنكرًا لكل تقاليد قومه، وهي بدعة ظلت مصر تعاني منها أمدا غير يسير حتى كانت شخصيتنا مهزوزة، ونظرتنا للأجانب نظرة المغلوب للغالب، وقوميتنا لم تتحدد بعد معالمها، وقد استهله النديم بقوله: "كان أحد الفلاحين اسمه معيط، وولد له ولد فسماه زعيط، وتركه يلعب في التراب، وينام في الوحل، حتى صار يقدم على تسريح الجاموس، فسرحه مع البهائم إلى الغيط، يسوق الساقية، ويحول الماء، وكان يعطيه كل يوم أربع حندويلات، وأربعة أمخاخ بصل، وفي العيد يقدم له اليخنى ليمتعه بأكل اللحم والبصل".
وهكذا سار النديم في صحيفته يخاطب كل قوم باللسان الذي يفهمونه، ثم شبت الثورة العرابية، وجذبه الثوار إليهم طائعًا أو مختارًا، وكان خطيبهم الذي

الصفحة 89