كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

أول جريدة ظهرت بمصر كانت تصدر أول الأمر باللغة التركية، ولكن محمد علي لم يجد بدا من الاستعانة بالمصريين في الجيش، واختيارهم أعضاء في البعثات، وصدرت الوقائع في أخريات حياته بالتركية، والعربية معًا، وإن ظل الضغط على المصريين شديدًا في عهده وعهد عباس الأول، بل لقد بلغ من اضطهاد اللغة العربية في عهد عباس الأول أن من كان يتكلم بهما من طلبة المدارس الحربية توضع في فمه العقلة، التي توضع في فم الحمار حينما يقص، ويبقى كذلك نهارًا كاملًا عقوبة له على تحريك لسانه باللغة العربية في غير أوقات الدرس، ولم يشعر المصريون في عهد محمد علي بالحرية التي كانوا يتطلعون إليها، وتصبو لها نفوسهم، ولا شك أن اللغة ويتبعها الأدب لا يمكن أن تنهض في مثل هذا الجو، وفي ظل هذا الحاكم.
بيد أن هذا الضغط في كل شئون الحياة لم يمنع المصريين من الأخذ بأسباب النهضة والإفادة منها، فهؤلاء الطليعة الذين سافروا إلى بلاد الغرب، وعرفوا من نظم الحياة والحكم، واغترفوا من ينابيع الثقافة الغربية ما لم يتح لهم أن يروه في بلادهم، قد عادوا وهم يحملون في جوانحهم آمالًا كبيرة لمستقبل بلادهم من أمثال رفاعة الطهطاوي، وعلي مبارك، ومحمد علي البقلي وإسماعيل الفلكي، وعشرات سواهم.
كانت هذه الطليعة تتولى قيادة الحركة الفكرية في عهد إسماعيل الذي جاء عقب النكسة التي أصيبت بها النهضة إبان حكم عباس وسعيد، إذ كان عباس من المعوقين فعلًا للتقدم، فسرح الجيش وأغلق المدارس التي فتحها محمد علي، ولم يستثن إلا مدرسة الصيدلة، ونفى رفاعة الطهطاوي إلى السودان بحجة فتح مدرسة ابتدائية في الخرطوم، ولم يكن الحال في عهد سعيد أحسن منه في عهد عباس، اللهم إلا أنه كان عطوفًا على المصريين، ورأى أنهم مغبونون في بلادهم، ولكنه لم يقم بعمل إيجابي لرفع الضرر عنهم.
ولما جاء إسماعيل، وكان شديد الطموح -وهو ممن تعلموا في فرنسا- رأى الأخذ بكل وسائل النهضة الحديثة إلى حد الطفرة، وتولى شئون التعليم في عهده

الصفحة 9