كتاب مقاصد المكلفين فيما يتعبد به لرب العالمين

وتوفي أحد الصحابة في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكان قد تجهَّز للخروج للحرب وقتال الكفار، فقالت ابنته متحسِّرة: "إن كنت لأرجو أن تكون شهيدا، قد كنت قضيت جهازك". فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "قد أوقع الله أجره على قدر نيته" (¬1).
وتخلف رجال في غزوة تبوك، كانوا يتحرَّقون شوقا إلى صحبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في تلك المعركة، ولكن حبسهم العذر، بعضهم لم يكن عنده الزاد والراحلة، ولم يجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما يحملهم عليه، وبعضهم لعلَّه كان مريضا، ومنهم من تخلف عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليَليَ شؤون المدينة، ويقوم على حمايتها، فأخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه الذين كانوا معه في تلك الغزوة أن أولئك المتخلفين المعذورين يشاركونهم في الأجر، ونصّ كلامه -صلى الله عليه وسلم- فيهم: "إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم العذر" (¬2).
وقد أشار القرآن إلى مساواة أصحاب الأعذار للمجاهدين إذا منعهم الضرر من المسير والحرب والطعان، قال تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولي الضَّرَرِ، وَالْمُجَاهِدونَ فِي سبِيل الله بأَمْوالِهمْ وَأنفُسهِمْ} (¬3).
وقد نزلت هذه الآية كما يقول ابن كثير أولا بدون "أُولي الضَّرَرِ" وكان عند الله ابن أمّ مكتوم قريبا من الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال: أَنا ضرير، والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت، فنزلت: {غيْرُ أولي الضَّرَر} (¬4)، فالآية كما يقول ابن كثير، ويرويه عن ابن عباس (¬5): تدلُّ على أنَّ "أولي الضرر" يساوون
¬__________
(¬1) رواه النسائي في سننه (4/ 14)، ومالك في موطئه (كتاب الجنائز 36)، وأحمد في مسنده (5/ 446)، ورواه ابن حبان والحاكم، وإسناده صحيح.
(¬2) رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما. انظر مسلم بشرح النووي (13/ 56)، كنز العمال (1/ 242).
(¬3) سورة النساء / 95.
(¬4) تفسير ابن كثير (2/ 366)، والحديث تفرد بروايته البخاري دون مسلم كما يقول ابن كثير.
(¬5) هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم الرسول صلى الله عيه وسلم، حبر هذه الأمة، وترجمان القرآن، دعا له الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وشهد له الصحابة، وأدخله عمر في مجلس الشورى مع كبار الصحابه، توفي بالطائف سنة (68 هـ). (خلاصة تذهيب الكمال 2/ 70)، (طبقات الحفاظ ص 10) (الأعلام 4/ 228).

الصفحة 85