كتاب نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار (اسم الجزء: 16)

كان قليلًا أو كثيرًا، أسكر أو لم يُسكر، ويكون المراد من التمر هو الذي يكون مسكرًا منه، ولا يكون غير المسكر داخلًا فيه، فيكون خمر العنب هي العصير منه إذا غلى واشتد، وخمر التمر هو المقدار الذي يُسكر، لا مطلق ذلك؛ فافهم.
فهذه أربع احتمالات ليس الذهاب إلى أحدها أولى من الآخر، ولا لمتأول أن يتأوله على أحدها إلا ولخصمه أن يتأوله على خلاف ذلك.
فإن قيل: ما الحاجة إلى هذه التأويلات، فَلِمَ لا يعمل بما يتناوله اللفظ، فما الحاجة إلى العدول عن ذلك؟.
قلت: لأن اسم الخمر في الحقيقة يتناول التي من ماء العنب إذا غلى واشتد، وتسمية ماء التمر وغيره من الأشربة المحرمة باسم الخمر بطريق التشبيه بالخمر، والدليل على ذلك اتفاق المسلمين على تكفير مستحل الخمر في غير حال الضرورة، واتفاقهم على أن مستحل ما سواها من الأشربة غير مستحق لسمة الكفر، فلو كانت خمرًا لكان مستحلها كافرًا خارجًا عن الملة كمستحل المشتد من عصير العنب، فإذا كان كذلك، يحتاج الحديث إلى التأويل، وقد ذكرنا أنه يحتمل تأويلات متعددة.
فإن قيل: كل ما أسكر يطلق عليه أنه خمر، ألا ترى إلى ما روي عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام".
قلت: المعنى في هذا الخبر وفيما هو مثله من الأخبار: أنه يسمى خمرًا حالة وجود السكر دون غيره، بخلاف ماء العنب المشتد فإنه خمر سواء أسكر أو لم يُسكر، وقد تواترت الأخبار عن جماعة من السلف شربت النبيذ الشديد، منهم: عمر، وعبد الله، وأبو الدرداء، وبريدة في آخرين، فينبغي على قول مَن يُطلق الخمر حقيقة على غير ماء العنب أن يكون هؤلاء قد شربوا خمرًا، وحاشى هؤلاء من ذلك.
ص: فإن قال قائل: فما معنى حديث ابن عمر - رضي الله عنه -؟ يريد ما قد حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمد بن عبد الله بن نُمير، قال: سمعت ابن إدريس، قال:

الصفحة 46