كتاب نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار (اسم الجزء: 16)
قال: فلما ثبت بما ذكرنا من عمر - رضي الله عنه - إباحة قليل النبيذ الشديد، وقد سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كل مسكر حرام"؛ كان ما فعله من هذا دليلًا أن ما حرَّم رسول الله -عليه السلام- بقوله ذلك عنده من النبيذ الشديد هو السكر منه لا غير. فإما أن يكون سمع ذلك من النبي -عليه السلام- قولًا أو رآه رأيًا، فأقل ما يكون منه في ذلك أن يكون رآه رأيًا، فرأيه ذلك عندنا حجة ولاسيما إذ كان فعله المذكور في الآثار التي رويناها عنه بحضرة أصحاب رسول الله -عليه السلام-، فلم يُنكره عليه منهم منكر. فدل ذلك على متابعتهم إياه عليه.
ش: أي وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه: أن الأحاديث التي احتجت بها أهل المقالة الأولى من قوله -عليه السلام-: "كل مسكر حرام"، أو "اجتنبوا المسكر"، أو نحو ذلك يحتمل أن يكون ذلك على إطلاقها، على معنى أن يحرم قليل المسكر وكثيره كما ذهب إليه هؤلاء.
ويحتمل أن يكون المراد: هو القدر الذي يسكر منه شاربه خاصة، ولا يحرم ما دون ذلك.
فلما كان الأمر كذلك وجب الرجوع إلى غيرها من الآثار؛ لنعلم به أي المعنيين أريد به، فوجدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو أحد الرواة عن رسول الله -عليه السلام- أنه قال: "كل مسكر حرام" قد روي عنه من فعله ما يدل على إباحة النبيذ الشديد على المقدار الذي لا يُسكر كما نُبينه الآن إن شاء الله.
فدل ذلك أن المراد من قوله -عليه السلام-: "كل مسكر حرام" هو السكر منه لا غيره؛ إذ لو كان ذلك على الإطلاق كما زعم الخصم لما شرب عمر - رضي الله عنه - من النبيذ الشديد ما دون الإسكار، ففعله ذلك لا يخلو إما أن يكون بطريق السماع من رسول الله -عليه السلام-، وإما أن يكون برأي نفسه قد رآه ذلك، فأقل الأمرين أن يكون ذلك منه بطريق الرأي، ورأيه حجة لا تدفع خصوصًا وقد كان فعله المذكور عنه في الآثار التي تأتي كان بحضرة الصحابة - رضي الله عنهم - فلم يُنكر ذلك عليه أحد منهم.
الصفحة 91
576