كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 16)

قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ" تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ" وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ" فِي الدُّنْيَا كَأَنَّهُمْ أَنْعَامٌ، لَيْسَ لَهُمْ هِمَّةٌ إِلَّا بُطُونَهُمْ وَفُرُوجَهُمْ، سَاهُونَ عَمَّا فِي غَدِهِمْ. وَقِيلَ: الْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا يَتَزَوَّدُ، وَالْمُنَافِقُ يَتَزَيَّنُ، وَالْكَافِرُ يَتَمَتَّعُ." وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ" أَيْ مَقَامٌ ومنزل.

[سورة محمد (٤٧): آية ١٣]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ" تَقَدَّمَ الْكَلَامُ في" كأين" في (آل عمران) «١». وهي ها هنا بِمَعْنَى كَمْ، أَيْ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ. وَأَنْشَدَ الْأَخْفَشُ قَوْلَ لَبِيدٍ:
وَكَائِنْ رَأَيْنَا مِنْ مُلُوكٍ وَسُوقَةٍ ... وَمِفْتَاحِ قَيْدٍ لِلْأَسِيرِ الْمُكَبَّلِ
فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: وَكَمْ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ." هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ" أَيْ أَخْرَجَكَ أَهْلُهَا." فَلا ناصِرَ لَهُمْ" قَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا خَرَجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْغَارِ الْتَفَتَ إِلَى مَكَّةَ وَقَالَ:] اللَّهُمَّ أَنْتِ أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ وَأَنْتِ أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَيَّ وَلَوْلَا الْمُشْرِكُونَ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي لَمَا خَرَجْتُ مِنْكِ [. فَنَزَلَتِ الْآيَةُ «٢»، ذَكَرَهُ الثعلبي، وهو حديث صحيح.

[سورة محمد (٤٧): آية ١٤]
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ" الْأَلِفُ أَلِفُ تَقْرِيرٍ. وَمَعْنَى" عَلى بَيِّنَةٍ" أَيْ عَلَى ثَبَاتٍ وَيَقِينٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. أَبُو الْعَالِيَةِ: وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْبَيِّنَةُ: الْوَحْيُ." كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ" أَيْ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ، وَهُوَ أَبُو جَهْلٍ وَالْكُفَّارُ.
---------------
(١). راجع ج ٤ ص ٢٢٨
(٢). ساقط من ك.

الصفحة 235